عبده خال

خلال أيام قلائل تهاوت قمم شامخة: شادية وإبراهيم خفاجي وأبو بكر سالم بلفقيه، هؤلاء عمالقة زمن ولا ندعي أن ليس لهذا الجيل نماذج فنية تتعملق في وجدانهم، إلا أنها لا تمثلنا وجدانيا وقيمة فنية تضاهي من رحل عن دنيانا..

ومع رحيل أي كبير نستشعر أن ثمة لبنة تسقط من معمار فني تكامل في أعماقنا، لهذا يكون الأسف عميقا والحسرة تتبعها آهات، وإذ تعمقت النظرة عن الأسباب الحقيقية لهذا الأسف سوف نجد أننا نبكي أنفسنا، فكل ما مر بنا هو جزء ضئيل من وجودنا الكلي، وسقوطه يعني أننا نتداعى بفعل مرور عجلة الزمن علينا ويكون الجزء الساقط استشعارا بدنو رحيلنا.

** **

تعرفت على الفنان الكبير أبو بكر سالم في الطفولة المبكرة (من خلال التلفزيون)، وأول لقاء به وهو يغني:

يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن

عالهجـر مقـدرش أنـا.. أشـوف يومـي سـنـة.

كانت شخصية تحمل ذاتها بثقة واقتدار وكأنه جبل ظهر من بين الأمواج ساعيا إلى اكتمال انتصاب قامته لكي يراه القاصي والداني، ينشر ابتسامته كاستهلالة وجد.. وكانت الأغنية شجى وحنينا لطائر حلق في البعد فلم يجد إلا طول المسافة بين الشجن والشجن..

وقد قطع حياته الفنية مسافرا بين الكلمات واللحن، ليوصل بين غربته الداخلية والهوى الذي تبعثر في الموانئ وتجمع في صوته.. ظل محتفظا باللوعة الحضرمية التي كلما ابتعدت عن حنجرته أعادته الكلمات واللحن و(المحضار) لأن يتذكر أنه فارق (المكلا) بعشق يتصاعد مع أنفاسه..

وبقي متذكرا لـ(زارعين العنب) وعندما يكون الـ(عنب في غصونه) ويرى جمال الجمال (يا ورد محلا جمالك بين الورود) وكلما طرأ بباله مسافة الفرقة غنى (امتى انا اشوفك) وتمنى اللقاء (شلنا يا بوجناحين) وكلما تقاعس من وطأة حمولته اشتكى (يا حامل الأثقال) ويواسي نفسه (عادك إلا صغير) ويتذكر السفر الطويل وأرقه (يا سهران) وينادي لمن يجاوره في الأرق (يا سمار) وليذكرهم ويذكر نفسه أنه على سفر (يا مسافر) وعندما يعزم على العودة من غيبته الطويلة يقدم بشارة (رسولي قوم) بلغ عن العودة، وكانت العودة هي النهاية... نهاية ذاك الصوت المسافر بقبره.

وهي النهاية لكل تعب ووجد.

عاش أبو بكر سالم وفي حناياه شجن ودمعة فراق ظل يكتبها ويلحنها طوال مشواره الفني... هو سيد: شجن الترحال..

وكانت آخر مرة أشاهده (أيضا من خلال التلفاز) عندما ظهر على كرسيه المتحرك بملعب الجوهرة مغنيا (يا بلادي واصلي) ليقول إن صوته يسكنه الانتقال والترحال، فلم تحفل حياته إلا بمواصلة المضي بعيدا بين الأماكن والكلمات التي كتبها وعزف لها حشاشة فؤاده ليسكن تلك اللحظات في أعماقنا كهوى عشعش في مخيلته ولسانه.

وبين أغنيتي: (بندر عدن) و(واصلي يا بلادي) كانت هناك رحلة طائر أبكانا وأسعدنا، فليرحمك الله يا أبا أصيل حتى أن اختيارك للأصيل تعني ارتحالك عبر الزمن. فلتهنأ بوصولك!