إياد أبو شقرا

من لقاءات بون وميونيخ وباكو الأمنية، إلى انتخابات فرنسا وألمانيا بعد «بريكست» بريطانيا و«ترمب» أميركا، العالم يقلق ويضطرب ويتغيّر..
أهي أزمة أولويات أم مشكلة مفاهيم؟ هل ما زال بالإمكان التوصّل إلى تعريف جديد للتعايش في عصر الشعبوية الصارخة الفجة؟
هل يمكن بأي صورة من الصور لمتعصّبين ومتطرفين يكرهون أبناء مجتمعاتهم وينادون بطرد الوافدين إليها... أن يتوافقوا ويتعايشوا مع آخرين حارب آباؤهم وأجدادهم ضد آبائهم وأجدادهم قبل عقود قليلة خلت؟
ما الذي يجمع بين «عنصريي» فرنسا و«عنصريي» ألمانيا عندما نتذكّر أن بين شعبي البلدين عداوات حربين عالميتين واحتلالات متبادلة في الألزاس واللورين والسار؟ ألم يلجم العداء الرؤيويين والعقلاء الكبار، من أمثال كونراد أديناور وشارل ديغول وروبير شومان، الذين فتشوا على القواسم المصلحية المشتركة... فولدت الحاجة إلى الوحدة الأوروبية؟
ما الذي يجمع «انعزاليي» إنجلترا اليمينيين الذين كانوا لسنوات قليلة ماضية ينظرون باحتقار إلى حزب العمال البريطاني ويعتبرونه «حزب الاسكوتلنديين والويلزيين»... بغلاة اليمينيين المتطرفين الفلمنكيين والوالونيين في بلجيكا؟ وما الذي يوحّد الكاثوليك المتعصّبين والبروتستانت المتعصّبين الذين جرت بينهم ذات يوم أنهار دماء من مذبحة سان بارتيليمي بفرنسا... إلى التصفيات الدموية في آيرلندا؟
ثم ما الذي يفسّر «أخلاقية» أو «منطق» المهاجر العربي أو الكردي أو الهندي أو الصيني، والمسلم أو الهندوسي أو البوذي أو السيخي في أوروبا الغربية، الذي يناوئ الهجرة من دول أوروبية مسيحية بيضاء مثل بولندا والمجر ورومانيا؟ كيف يستقيم أن يكون المهاجر وابن المهاجر مُعاديًا للمهاجرين؟ كيف يبرَّر لمَن كان ضحية العنصرية والتطرف في بلد أبيه وجدوده أن يمارس العنصرية والتطرّف بحق آخرين، إلا لكونه سبقهم إلى التمتّع بالعسل واللبن... ثم أغلق الباب خلفه، وبعده الطوفان؟
هذا هو العالم المضطرب اللاأخلاقي الذي يحاول بعض قادته ومسؤوليه كبح انزلاقه نحو حروب ما عاد يمنع تحوّلها إلى «حرب عالمية» سوى التطوّر الإفنائي لتكنولوجيا القتل. غير أن هذا العالم - عبر قادته المنتخبين ديمقراطيًا - ما زال في كل مؤتمراته ومداولاته يتوقّف عند الأعراض... رافضًا الخوض في الجذور.
ما زال يثرثر عن الحرية ويتحفّظ عن «العولمة» التي هي من نتاجاتها الأبرز. ما زال ينظّر في موضوع الأمن ويتجاهل منابت الظلم و«عشش» الحرمان ومستنقعات الجهل التي تهدّد أمن كل المجتمعات على امتداد المعمور.
بالأمس، في مؤتمر ميونيخ للأمن، قالت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير ليين إنه «لا يجوز تحوّل الحرب على داعش إلى حرب على الإسلام». والكلام نفسه تقريبًا ورد على لسان المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
هذا كلام سليم، لكنه لا يعني شيئًا أمام ما نرى ونسمع في الحملات الانتخابية التي تشهدها الدول الغربية خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. لا يعني شيئًا عندما تُشير استطلاعات الرأي، المرة تلو المرة، إلى أن شعبية المرشحين ترتفع كلما ارتفعت أصواتهم ناطقة بالكراهية والعزل ورفض الآخر. ولا يعني شيئًا مع تذكّر المناورات والمؤامرات والجرائم ذات الطابعين الديني والعرقي من ميانمار إلى الأميركتين، مرورًا بالشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. بل إن هذه المناورات والمؤامرات - والجرائم الدينية العرقية، وعلى رأسها التهجير والتطهير الطائفي والعرقي - مستمرة أحيانًا برعاية دولية أو تواطؤ دولي على أرفع المستويات.
أميركا انتخبت في نوفمبر (تشرين الثاني) دونالد ترمب بناء على برنامج انتخابي واضح لا لبس فيه. واليوم تتجه الأنظار إلى ثلاثة اختبارات انتخابية دقيقة في كل من هولندا وفرنسا وألمانيا. ولئن كان المراقبون لا يزِنون نتيجة الانتخابات الهولندية بالميزان نفسه الذي يزِنون فيه ما سيحدث في فرنسا وألمانيا، فإن تقدم اليمين العنصري المتطرف في هولندا غدا مؤشرًا مهمًا لبضعة أسباب؛ أبرزها حدة عدائه للمهاجرين في بلد تعيش فيه جالية مسلمة كبيرة.. بل ترأس برلمانه سيدة عربية مسلمة. ومن ثم فإن أداء تيار العنصرية في هولندا جدير بالمتابعة بعدما سقط «عيب» العنصرية من قاموس السياسة في ديمقراطيات دستورية غربية عريقة.
بطبيعة الحال، الانتخابات الفرنسية تعني الكثير للفرنسيين وللمهاجرين، وكذلك الكثير لأوروبا وللعالم. وما هو مؤكد حتى الآن أن «الجبهة الوطنية» ما عادت ظاهرة ناشزة أو طارئة على الحياة السياسية الفرنسية، بل غدت جزءًا من مؤسسة السلطة. وبجانب نجاح الزعيم السابق لـ«الجبهة» جان ماري لوبان في الوصول إلى الدورة الثانية الحاسمة في انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2002، فإن هذا الحزب المتطرف بات يتمتع بحضور سياسي وازن. ثم إن رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون استطاع الفوز بترشيح اليمين التقليدي أخيرًا، متغلبًا على رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء السابق آلان جوبيه، بسبب اصطفافه على أقصى اليمين وتبنيه عددًا من الشعارات المألوفة من «الجبهة الوطنية». وهو ما يعني أن هذا المنحى الانعزالي الخطير خرج من الهامش إلى قلب الميدان.
وفي ألمانيا، يشكل حزب «البديل لألمانيا» المتطرف أيضًا حالة جديرة بالرصد، وسيكون لافتًا كيف سيستغل أداء التيارين المشابهين في هولندا ثم فرنسا، مع العلم أن أزمة المهاجرين غدت بفعل الأزمة السورية وتداعياتها المأساوية موضوعًا حساسًا على مستوى أوروبا، التي هي المقصد الطبيعي للاجئين والنازحين من سوريا وعموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
غير أن ثمة بُعدًا آخر للعنصرية، وبالذات في أوروبا، هو موقف موسكو منها.
تأييد موسكو انتخاب ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية ما عاد سرًا. والتقارير تتزايد راهنًا عن دعم روسي قوي يصب لمصلحة كل قوى التطرف والعنصرية في أوروبا، بما فيها لوبان في فرنسا. وهو يأتي بالتوازي مع مواصلة موسكو سياستها «التهجيرية» الممنهجة في سوريا.
أين مصلحة موسكو من كل هذا؟
المنطق يقول إن في حسابات الكرملين افتعال اضطرابات أهلية مدمّرة في القوى الغربية الكبرى. ولعل هذا هو الانتقام المثالي من الغرب الذي أسقط الاتحاد السوفياتي، وقضى مؤقتًا على توسع الإمبراطورية الروسية باتجاه المياه الدافئة.. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .