عادل درويش

انتخابات فرعية في بريطانيا في دائرتين، كوبلاند في مقاطعة كمبريا في شمال غربي إنجلترا، ودائماً نوابها من حزب العمال منذ عام 1935.
الثانية ستوك - أون - ترنت في قلب إنجلترا الصناعي، وأيضاً تحت سيطرة العمال منذ 1950. النتيجتان تاريخيتان وتضعان خطوطاً جديدة بأبعاد اقتصادية على الخريطة السياديموغرافية نحاول قراءتها بطريقة جديدة.
الأهمية لقراء «الشرق الأوسط» الدروس المستخلصة، فالصحافة العربية (مقروءة أو مرئية) تمتلئ بالأعمدة والافتتاحيات عن الإصلاح والديمقراطية والتمثيل النيابي (رغم أنك نادرًا ما ترى صحافيين ومعلقين عربًا في أم البرلمانات في وستمنستر). تقديم التحليل للقارئ كنموذج لتطور أعرق الديمقراطيات، بأبعاد جديدة، رغم أن القواعد القديمة لا تزال هي الأساس في أدوات التحليل، فمهما تضخمت الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المستويين القومي والعالمي، يظل المقياس الأهم متمثلاً في الأولويات المحلية في حياة المواطن كلقمة العيش والخدمات العادية من إسكان وتعليم وصحة.
الشعوب المتقدمة ديمقراطياً تصوت للمصلحة الاقتصادية ولحاجات الأسرة، أو حسب التقسيم الطبقي (وبريطانيا مجتمع طبقي ليس حسب الثراء أو الوضع المالي، وإنما وفق الثقافة الاجتماعية)، وليس لقناعات آيديولوجية أو وعود من القيادة السياسية. فاقتصادياً يعتمد الفرد على نفسه سواء في العمل الحر، أو العمل لدى مستثمر أو منشأة أو صاحب عمل، والدولة لا تخلق وظائف، بل مهمة الحكومة توفير المناخ المناسب للنمو الاقتصادي بلوائح وسياسة ضرائبية تحفز الأفراد والقطاع الخاص والمستثمرين على خلق الوظائف.
تاريخياً تختلف حسابات الناخب في الديمقراطيات الناضجة أثناء الانتخابات العامة (التي تؤدي إلى تغيير الحكومة) عنها في الانتخابات الفرعية.
مقابلات إذاعية مع السكان المحليين تلخص الموقف: معظمهم قالوا ما معناه: «هذه المرة صوتنا للعمال، لكن في الانتخابات العامة سنصوت لحزب آخر».
والمعتاد أن تخسر الحكومة الانتخابات الفرعية في منتصف فترة الحكم، لكن المفاجأة وقعت في دائرة كوبلاند، في كمبريا، حيث فازت ترودي هاريسون ابنة الـ40 ربيعاً عن حزب المحافظين. وهي المرة الأولى التي يفوز فيها مرشح من حزب الحكومة في انتخابات فرعية لأكثر من 35 عاماً. لم يكن حزب المحافظين الحاكم يتوقع الفوز، لدرجة أن زعيمة الحزب، رئيسة الوزراء تيريزا ماي لم تشارك في الحملة الانتخابية المحلية في دائرة كوبلاند العمالية حتى لا ترتبط صورتها بالهزيمة.
وما أشبه اليوم ببارحة الثمانينات، عندما كان العمال منقسمين على أنفسهم - انشق كبار زعماء العمال قبل 36 عاماً عن الحزب، وكان بزعامة اليساري مايكل فوت، ليكونوا الديمقراطيين الأحرار - انضموا بعد ذلك للأحرار بعد انخفاض شعبيتهم.
ليس من المتوقع أن ينبثق حزب آخر عن العمال اليوم، لكن زعامة الحزب، وجهت اللوم للزعيم الأسبق توني بلير على خطابه، مطالباً الناس بالانتفاض ومقاومة الخروج من الاتحاد الأوروبي (راجع «الشرق الأوسط» عدد الأحد 19 فبراير/ شباط)، بينما قرابة 50 من نواب الحزب في البرلمان من التيار البليري يلومون زعيمه جيرمي كوربن ويعتبرونه مسؤولاً عن خسارة الدائرة.
خسارة العمال لدائرة كوبلاند تعود بالطبع إلى زعامة كوربن، لكن ليس للأسباب التي تسوقها المؤسسة الصحافية الليبرالية (جزء من استراتيجيتها ربط الهزيمة في دائرة محلية بالزعامة، وذلك لدعم الديمقراطيين الأحرار لعرقلة الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تريد المؤسسة الليبرالية البقاء فيه).
أثناء الحملة في الانتخابات الفرعية ركز العمال على الصحة العامة، وهي قضية قومية تتهم فيها المؤسسة الليبرالية بزعامة الـ«بي بي سي» المحافظين بإنقاص الدعم بغرض خصخصة الخدمة؛ ورغم ذلك خسر العمال الذين جعلوها أولوية. السبب أن التاريخ يعيد نفسه. كوربن مثل فوت unilateralist أي يريد نزع السلاح النووي للبلاد من طرف واحد، ولا يريد تجديد برنامج غواصات الردع النووي تريدنت، محطة الطاقة النووية والمشروع النووي يوفر آلاف الوظائف في الدائرة، أي أن القضية هنا هي أكل العيش أولاً لأبناء الدائرة.
الدرس الثاني لقرائنا أن النائبة الجديدة المنتخبة ابنة المنطقة، وهي عضوة منتخبة في المجلس المحلي للبلدة، أي أن لها سجلاً من الخدمات يعرفه الناخبون.
الانتخابات الفرعية الأخرى كانت في دائرة ستوك - أون - ترنت، وهي الدائرة صاحبة أكبر عدد من أصوات المطالبين بالخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة كلها، (70 في المائة)، وهي عمالية لسبعة عقود، وكان من المتوقع أن يفوز فيها حزب الاستقلال يوكيب، حيث خاض زعيمه الجديد بول ناتال الانتخابات.
لكنه جاء في المركز الثاني رغم اتساق الموقف السياسي لغالبية الدائرة معه واحتفظ العمال، الذين يفضل مرشحهم البقاء في أوروبا، بالدائرة لكن تناقصت أغلبيتهم.
ودائرة ستوك من المناطق التي ارتفعت فيها البطالة بنقلة الاقتصاد أثناء فترة ثاتشر، من الصناعات القديمة التقليدية إلى الخدمات والمال التي انتقلت إلى لندن والجنوب والمدن الكبرى. كوربن ومجموعة زعامة العمال من الفكر الاشتراكي اليساري، وبرنامجهم هو الاستثمار والإنفاق ودعم الصناعات القديمة، وهنا رأى الناخب في البرنامج القومي للحزب فرصة استثمار محلي في صناعات ثقيلة كخيار أفضل من السياسة الاقتصادية لحكومة المحافظين.
العامل الثاني، الدور الذي لعبته المؤسسة الصحافية اليسارية الليبرالية وشبكات التلفزيون والإذاعة في تدمير فرصة حزب الاستقلال بالتركيز على جانبين سلبيين لمرشحه. فهو لا ينتمي للدائرة واشترى بيتاً فيها منذ أسابيع قليلة كعنوان له. والثانية ادعاؤه غير الصحيح على موقعه أنه كان في استاد كرة قدم أثناء حادثة تدافع راح ضحيتها عدد من المشجعين منهم صديق له.
لم تناقش أي من التغطيات التلفزيونية مرشح حزب الاستقلال في برنامج الحزب، أو ماذا يقدم للدائرة. وحتى أثناء جولاته لطرق الأبواب أو في الأسواق لمناقشة الناخبين، كان صحافيو التلفزيون يقاطعونه بالسؤالين عن حادثة الاستاد ومحل الإقامة، أي أصبح الصحافيون بكاميراتهم وإلحاحهم حاجزاً بين البرنامج الانتخابي لحزب الاستقلال وبين أبناء الدائرة الذين لم يكن أمام معظمهم إلا الاختيار بين برنامجي العمال والمحافظين.
المرشح وقع في فخ الصحافيين ودخل معهم معارك كلامية بدلاً من تجاهلهم والتركيز على ترويج برنامجه الانتخابي.
الاستخلاص من نتيجتي الانتخابات الفرعية أننا مثل فترة الثمانينات من القرن الماضي، وارتفاع شعبية المحافظين بلا معارضة قوية تعتبر ضرورية لتوازن الديمقراطية البرلمانية. وعندئذ تلعب الصحافة دور المعارضة. لكن الصحافة منقسمة بين صحافة مطبوعة تريد تنفيذ إرادة الشعب التي عبر عنها في استفتاء البريكست، وشبكات تلفزيونية أغلبها يمثل تيارات المصالح التي تريد عرقلة الإرادة الشعبية.. . .