إياد أبو شقرا

تنطلق اليوم جدياً، كما نسمع، فعاليات مؤتمر «جنيف 4» حول سوريا.


التوقّعات كانت متواضعة. كانت كذلك منذ فسّرت موسكو مقررات «جنيف 1» على هواها، ولم تترجم الاعتراضات الدولية على تفسيرها المجزوء إلى أفعال. بل، حدث العكس عندما بادرت روسيا إلى الفعل عندما اكتشفت أن الآخرين سيكتفون بالكلام. وبخاصة، في أعقاب استخدام نظام بشار الأسد السلاح الكيماوي في غوطة ودمشق وأماكن أخرى، وحينذاك سقطت «خطوط باراك أوباما الحمراء»، ومعها سقط أي أمل بمقاربة دولية جادة تنهي المقتلة السورية.
اليوم، تحت إشراف المبعوث الدولي (والعربي) إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، يلتقي الطرفان السوريان... المعارضة والنظام، ومعهما ممثلو أولئك الذين لا يريدون الانتساب إلى النظام ولا تصح فيهم صفة المعارضة. ولئن كانت حكاية دي ميستورا معروفة مع ما يعتبره «مُنجزات» تبرر بالنسبة له احتفاظه بمهمته بعدما رفض المضي بها غيره، فإن حال «المعارضات» - الصحيحة واللفظية - وما تبقى من النظام... تستدعي مناقشة أطول وأشمل.
دي ميستورا، الذي أوكلت إليه مهمته قبل نحو ثلاث سنوات (في يوليو/تموز 2014) خلفاً للدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، ارتضى أموراً وتعايش مع «حقائق» رفض غيره السير بها. سكت حقاً عن مسار تآمري لوأد الثورة السورية، وكانت كل مبادراته واقتراحاته - عملياً - تغطية من «الشرعية الدولية» لإجهاض الثورة، ومحاصرة المعارضة، ومباركة العدوان الروسي - الإيراني والتخلي الأميركي. ومن ذلك، مبادرته السيئة الصيت لإخلاء مدينة حلب سلماً، التي جاءت تمهيداً لإخلائها بالقوة فيما بعد تحت ضغط الطيران الحربي الروسي والميليشيات الإيرانية المتعددة الجنسية. ثم قبوله بعملية التهجير الديني والمذهبي التي برمجها النظام وداعموه، ولا سيما في ضواحي العاصمة دمشق.
هذا هو حال دي ميستورا... ولكن ماذا عن النظام والمعارضة، بل «المعارضات».
كان النظام يخوض حربه على شعبه منذ صيف 2011 بطريقة «علي وعلى أعدائي» وفق قناعته التامة القديمة بأن أي تراخ منه في الشق الأمني يعني نهايته المحتومة. والواقع أن نموذج مدينة حماه عام 1982 ما زال ماثلاً في ذاكرة كثرة من السوريين، تماماً كما يتذكر بعض اللبنانيين حصار قوات حافظ الأسد مدينة زحلة عام 1981، ويتذكر بعض الفلسطينيين تصفية الأسد الأب المقاومة الفلسطينية في لبنان، بما في ذلك مشاركة بعض كبار ضباطه بإسقاط مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وعلى رأسها تل الزعتر بشرق بيروت.
هذه «المآثر» لا تُنسى. وهي في صلب العقيدة القتالية لنظام جوهره «منظومة أمنية - مذهبية» مستعدة من أجل البقاء لفعل أي شيء. أي شيء بالمطلق. ولذا، ما كان باستطاعته تقديم تنازلات لانتفاضة شعب درعا ومظاهرات شعب حماه الحاشدة بعد 2011، ذلك أن الأمن عنده أهم من الشعب.
إنه النظام المختلف تماماً عن النظام الديمقراطي الذي تحدث عنه أبراهام لنكولن عندما قال: «حكم من الشعب، يختاره الشعب، لخدمة الشعب...». ومن ثم، فأولوياته، واقعياً، صحيحة، كونه ليس مديناً للشعب بأي شيء، ولم يختره الشعب أساساً، ولم يتولَّ السلطة لخدمة الشعب.
وبناءً عليه، أين المشكلة في تنظيم «انتخابات» تحت القصف ووسط عمليات التهجير الممنهج، أو تقليص عدد سكان سوريا إلى ما دون النصف وتوطين آخرين بدلاً منهم؟ وأين الغرابة في الكلام عن السيادة بينما تجوب سماء سوريا طائرات حربية من دول شرقية وغربية... وتتقاسم السيطرة على أراضيها عشرات الجيوش والتنظيمات والزمر الآتية من كل حدب وصوب، بعضها معه وبعضها الآخر ضد و«البعض» الثالث معه فعلياً وضده إعلامياً؟
هذا النظام ما كان في وارد التفاوض عندما شارف على الانهيار قبل أن تنجده الميليشيات الإيرانية، وتدعمه آلة الحرب الروسية، فلماذا يفاوض اليوم؟ على أي أساس؟ ووفق أي منطق يقدم تنازلات بعدما اعتبر نفسه منتصراً؟
في المقابل، إذا كان النظام المنهار قد تمكن مؤقتاً من الوقوف على قدميه بسبب الموقفين الروسي والأميركي منه، فإن الخط البياني للمعارضة سار - للأسف - في اتجاه معاكس بعدما خذلها كثيرون، لكنها هي أيضاً لم تقصّر في إيذاء نفسها وإضعاف صدقيتها.
قد يجادل بعضهم بأن «عسكرة» الثورة الشعبية أسهمت في فقدانها التدريجي الدعم الواسع الذي كانت تحظى به خلال السنتين الأولى والثانية من عمرها. قد يكون هذا صحيحاً. لكن الصحيح أيضا أن الحزازات الشخصية والمطامح الأنانية والولاءات الخارجية ونقص الثقة المتبادلة بين مكوّناتها... عوامل هزّتها وقلّلت من تماسكها. وبالتالي، انقسمت التجمّعات التي أبصرت النور خلال الشهور الأولى وكثرت الاجتهادات. وشاهدنا تبدّل القيادات بصورة لافتة توحي بأن آفتي الفردية والإلغائية المألوفتين في مجتمعات القهر والشك والخوف تحولان دون قيام جبهات عريضة متفاهمة متماسكة.
أيضاً، كان جزء من الدعم الذي أخذت تتلقاه قوى معينة من المعارضة مشروطاً، إما مصلحياً أو عقائدياً، ما رجّح كفة هذه القوى على غيرها من دون أن تكون - بالضرورة - أوسع تمثيلاً، أو أكثر قبولاً. ولم يطل الوقت، حتى اقتنعت قوى لا غبار على مقاصدها بأنها غير مرغوب فيها، ولا يراد لها أن تكون جزءاً من آلية القرار السياسي، فانزوت أو ابتعدت عن المشهد بلا ضجيج. وبعكس هذه القوى، كانت ثمة قوى أخرى لها حسابات وصلات مختلفة، إما كُلّفت بطرح نفسها كقوى «معارضة»، أو وجدت الفرصة مؤاتية لطرح نفسها بهذه الصفة لتحقيق مكاسب من أي تسوية سياسية مع نظام لم تختلف معه إلا بالتفاصيل، وهذا إذا كانت مختلفة معه أصلاً.
أخيراً، لا بد من القول إن الظروف الدولية التي تجرى فيها مباحثات «جنيف 4» ظروف استثنائية. وفي غاية الأهمية محاولة قراءة ما تنوي الإدارة الأميركية الجديدة فعله.
إنه «المجهول الكبير»، وهو ما سيترك انعكاسات على جميع اللاعبين السوريين والإقليميين والدوليين... بدءاً بمصير الأسد ونظامه، مروراً بـ«المشروع الكردي»، وانتهاءً بمصير «مثلث» موسكو - أنقرة - طهران.. . .