محمد السعيدي

المنهج السلفي يتميز عن سائر المناهج في فهم الإسلام بأنه ملتزم السيرَ بإحكام على القاعدة المتفق عليها؛ بل يجعلها معياراً دقيقاً في تحديد الحق الذي لا يجوز القول بخلافه

من المصطلحات المعاصرة التي تُساق دائماً مساق الذم: مصطلح «احتكار الحق» ويوصف به كل فرد أو نحلة أو جماعة يُتَّهَمُون بأنهم ينفون عن مبادئهم أو آرائهم أدنى درجات احتمال الخطأ؛ ويحكمون لها ولمن مشى عليها بالصواب المطلق الذي لا يتخلله شك؛ ويحكمون على خِلافهِا ومن خالفها بالخطأ الذي ليس معه أي احتمال للصواب. 
وفي عصر شاع فيه الجدل أصبحت هذه العبارة حجراً يَقذِفه من شاء على من شاء؛ حتى أضحت من المصطلحات التي تُسْتَخْدَم في الإرهاب الفكري؛ وصار لها من السطوة بحيث يتحاشى أن يُرمى بها أكثر الكتاب والمفكرين والعلماء والباحثين؛ ولا يتورع عن إطلاقها على مُخَالِفِه كثيرون من المشتغلين بالجدل في القضايا الفكرية المعاصرة.
وكثيراً ما يُرمى المنهج السلفي والسائرون عليه بهذا الوصف في هذه الأجواء الجدلية السائدة؛ مع أن المناهج الأخرى وأصحابها الذين يتصدون للسلفية، عند التحقيق هم الأكثر عدوانا وقسوة على مخالفيهم؛ وإثبات ذلك يحتاج إلى مقالات تتعرض بالتفصيل لكل مذهب أو جماعة من المخالفين والتمثيل بأقوالهم في نصرة مذاهبهم مقارنة بما يرمون به خصومهم.
ولو قصرنا الحديث في مقالنا هذا على أشهر المناهج المختلفة في فهم الإسلام؛ الشيعي والكلامي والصوفي والسلفي، لوجدناها تتفق إلى حدٍ كبير على أن ما ثبت بالدليل القطعيِّ الثبوتِ والدلالةِ حقٌ لا يجوز خلافه؛ وأن ما ثبت بالدليل القطعي الثبوت أو ظني الثبوت، لكنه ظنيَّ الدلالة حقٌ يجوز خلافه لمن استقر لديه الظنُّ على خلاف ما استقر عند الآخرين بشرط أن تكون أدواته في الارتقاء بفهمه إلى الظن أدواتٍ صحيحةً؛ وأن الأوهام والشكوك لا يمكن التعلق بها في ادِّعاء الحق. 

هذا القدر يَكاد يكون من حيث الجملة متَّفَقاً عليه تأصيلاً؛ أما عند التطبيق فلن تجد واحداً من المناهج التي ذكرناها ناجحاً في ضبط أصوله العقدية على هذا المعيار؛ سوى المنهج السلفي؛ الذي يُعطي النصَّ القطعيَّ حقَّه في أركان الإيمان الستة بالقدر نفسه الذي يعطي النص القطعي حقه في أسماء الله تعالى وصفاته؛ بينما تُنَاقِض المناهجُ الأُخرى القاعدةَ المذكورة فتُعْمِلُ إلى حدٍ ما النص القطعيَّ في إثبات أركان الإيمان، وتُعَطِّل النص في صفات الله تعالى؛ ثُمَّ تَشْغَل نفسها بتبرير هذا التعطيل؛ وفيما يُشَابِه هذا المثال الذي تتفق المناهج الثلاثة فيه على مخالفة المنهج السلفي لا يُمْكِن للأخير أن يُجَامل أصحاب المناهج الأخرى، ويزعم أن الحق قد يكون معهم وأن رؤيته ورؤيتهم لا تخرج عن كونها اجتهادات دائرة بين الصواب والخطأ؛ لا يمكنه قول ذلك؛ لأنه صادر، هو وهم، عن قاعدة أصولية واحدة؛ كل ما في الأمر: أن أصله العقدي مُتَّسِق مع القاعدة الأصولية بينما أصلهم العقدي في تعطيل النص مناقض لهذه القاعدة. 
مثال آخر: تتفق المناهج الأربعة على أنه لا مدخل للعقل في تكاليف الشريعة؛ فالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من التكاليف في جملتها وتفصيلها، وكذلك العقوبات من حدود وتعزيرات؛ وكذا المُحرمات: ما ثبت دليلها بالنص لا أثر للعقل فيها؛ فلا يُمكن أن يُرَدَّ حُكم أو يُصْرَف عن ظاهره أو يُجتهد في كيفيته أو وقته، أو تُرَدَّ عقوبة وقد ثبت ذلك عن الله أو عن رسوله بالنص؛ سواء أكان ذلك النص قطعي الثبوت والدلالة أم ظنيَّهما؛ هذا من حيث الجملة؛ أما التفاصيل ففيها تفاصيل؛ هذا مع أن تطبيق الأحكام الشرعية يقع ضمن عالَمِ الشهادة الذي هو مُدْرَك بالحواس وتفعله الجوارح؛ ثم يأتي التناقض حين نجد المناهج الثلاثة المخالفة للمنهج السلفي تُدْخِل العقول في عالم الغيب غير المُدرك بالحَوَاس وتُعَطِل من أجله النصوصَ؛ فمِن هذه المناهج من ينكر نعيم القبر وعذابه، والحوض، والسراط، واللوح المحفوظ والميزان؛ ومنهم من ينكر صفات الله تعالى؛ ومنهم من يُثْبثُ لبعض البشر حياة على ظهر الأرض دون أن يُرَى أو يُحَس؛ أو يُثْبِت لبعض الأموات قدرة وتأثيراً في الحياة؛ أو يُثبِتُ إمكان حدوث تشريعات جديدة في الدين؛ أو سقوط تكاليف عن بعض العباد عبر تواصلٍ مباشر مع الله، أو مع الأموات؛ أو مع البشر المخلدين الذين لا تمكن رؤيتهم أو لمسهم. 
بينما نجد المنهج السلفي مُطَّرداً، بل وعقلانياً أيضاً؛ فهو يمنع أن يكون للعقل مدخل فيما ثبت تشريعه نصاً في عالم الشهادة؛ كذلك بل من باب أولى: يمنع دخول العقل فيما ثبت بالنص إثباته أو نفيه في عالم الغيب؛ فهو يثبت نعيم القبر وعذابه والسراط واللوح وأحوال يوم القيامة لثبوتها في النصوص؛ ويمنع إمكانية أن يعيش بشر دون أن يُرَى أو يُحَس؛ ويقول بانقطاع الوحي وامتناع التشريع والزيادة في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لهذا الاتساق بين القاعدة والتطبيق لا يمكن أيضا للمنهج السلفي أن ينفي عن نفسه احتكار الحق في ذلك؛ فمخالفوه هم مخالفو الأصل المتفق عليه لا هو.
فالمنهج السلفي يتميز عن سائر المناهج في فهم الإسلام: بأنه ملتزم السيرَ بإحكام على القاعدة المتفق عليها؛ بل يجعلها معياراً دقيقاً في تحديد الحق الذي لا يجوز القول بخلافه، والحق الذي تتنازعه الأطراف ولا يُثَرِّبُ واحدهم على الآخر؛ وذلك حين يكون الدليلُ الصحيح ظنيَّ الدلالة؛ كقوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافقِ وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أَو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ [المائدة: 6] فهذا الدليل: قطعي الدلالة على اشتراط الوضوء للصلاة، قطعي الدلالة أيضا على الأعضاء المطلوب غسلها في الوضوء؛ لكنه غير قاطع في الدلالة على الترتيب بين الأعضاء في الوضوء ولا في الموالاة في غسلها لكون العطف جاء بالواو التي تحتمل الترتيب وتحتمل عدمه؛ كما أنها ليست قاطعة في تحديد المقدار الذي يُمسح به من الرأس؛ لذلك جاز الخلاف في هذه المسائل الثلاث؛ ولم يجز الخلاف في أعضاء الوضوء؛ فمن خالف من الفقهاء في اشتراط الترتيب والموالاة والجزء الممسوح من الرأس فلا تثريب عليه. 
ففي هذه المسألة وأمثالها من مئات المسائل الفقهية لا يقول المنهج السلفي باحتكار الحق؛ بل إن المنهج السلفي لا يُصَحِح التقليد في مسائل الفقه مع امتلاك آلة الاجتهاد إلا في أحوال ضيقة؛ بينما نجد التقليد والتمذهب أصل في المناهج الأخرى؛ حتى وصل الأمر إلى القول بإغلاق باب الاجتهاد؛ بل تجاوز ذلك إلى الاختلاف بين أتباع المذاهب الفقهية الفروعية من المنتسبين للمنهج الكلامي في جواز صلاة الحنفي خلف الشافعي والمالكي والحنبلي؛ والعكس؛ الأمر الذي انعكس على الواقع فبُنِيَت المحاريب لأتباع المذاهب الأربعة في المساجد الكبار؛ ومنها الجامع الأموي والمسجد الحرام؛ وكان أول تغيير لهذه البدعة الخطيرة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله حين دخوله مكة. 
وأختم بأن المعيار الحقيقي للاعتدال والميل والهُدَى والضلالة هو مدى البعد أو القرب من الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما فهمه عنه السلف الصالح رحمهم الله.
وما جاء به الرسول مُتَمَثِلٌ في القرأن الكريم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيما حكم العلماء بقبوله من مروي سنته المحفوظة بنص كلام الله تعالى القائل في محكم تنزيله: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ [الحجر: 9] والسنة داخلة في معنى الذكر بدلالة قوله تعالى: ﴿بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: 44] فالذكر في الأية هو السنة التي يُبَيِّن بها النبيُ القرآن.
فإذا تقرر ذلك فمعنى المنهج السلفي: العودة إلى الإسلام النقي الخالص البعيد عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ والإسلام بهذه الصفات حق محض، وما سواه باطل.