سمير عطا الله

غابا في يوم واحد، ولا علاقة أخرى بينهما: نقيب الصحافة اللبنانية السابق محمد البعلبكي، وعالم الاجتماع المصري السيد ياسين. كم تجمع بينهما سورة الفجر: رجوع النفس المطمئنة إلى ربها.


لم يبقَ قلم في صحافة مصر لم يهرع إلى وداع السيد ياسين. ولم يبقَ صوت في لبنان وما نادى على غياب النقيب. الأول، كان غزير الانفتاح، متعدد المنابر، نشيط الحضور والظهور، إلا أن شخصه ظلّ أهم من كل عطائه. والثاني كان قليل الكتابة، كثير النشاط، غير أن نفسه المطمئنة ظلّت أهم من أدواره ومن ألقابه.
كلاهما أقام مع الناس علاقة شخصية أبوية عالية لا يُهبِطها شيء. لا خلاف ولا نزاع ولا أزمة ولا ثورة. الخلق مناعة ضد الصغائر وحصانة ضد الكبائر. اقتصرت معرفتي بالسيد ياسين على لقاء عابر في مكتب تريم عمران في جريدة «الخليج». لكن فيضان الرثاءات في صحف مصر والخليج ولبنان، على غيابه، جعلني أشعر بالخجل والذنب، من ألا أمر على غيابه بكلمة عزاء. والحقيقة أنه عندما يكون الغائب سيداً وأستاذاً ومعلماً، مثل السيد ياسين، تبدو جميع المراثي مثل فرض مدرسي.
كان محمد البعلبكي محامياً وأزهرياً وصحافياً وخطيباً وسياسياً. وفي جميعها، من الدرجة الأولى. إلا أنه كان من الدرجة فائقة الامتياز والتميز، كمواطن لبناني وإنسان عربي. ومثل كل الأذكياء، كان سريع الدعابة، عظيم الأدب. يفاكه ولا يسخر، يناقض ولا يجرح، يعارض في محبة وسع البحار.
في مرحلة ما، قال الحاسدون الصغار إن محمد البعلبكي أمضى وقتاً طويلاً في النقابة، ولا بد أن يذهب. وعلمت أن الرئيس إميل لحود أقنع بهذه النظرية. وكان من عادتي أن أزوره من دون سبب محدد، لكنني طلبت يومها موعداً عاجلاً. وقلت له إن نزع البعلبكي من نقابة الصحافة ينزع من الصحافة أنسها وإجماعها والمقدرة الكبرى على الجمع بين الحرية الصحافية والالتزام الوطني. ذات مرة اتصل النقيب معاتباً: لماذا لا تمرّ بنا عندما تكون في لبنان؟ وكانت زيارته من المتع النفسية القليلة، فحملت نفسي في اليوم التالي وذهبت إليه. وكان يحوّل كل لقاء إلى «مجلس»، فلا يتركه أحد من أعضاء النقابة إلا ويدعوه، وخصوصاً نائبه الوزير السابق جورج سكاف، الذي يضيف إلى الجلسة رونق المهنة.
بعد انتهاء الجلسة ودَّعَني وهو يعطيني نسخة عن محاضرتين ألقاهما؛ واحدة في الفقه وأخرى في المواطَنة. حاولت أن أجد مناسبة للكتابة عنهما، فلم أعثر عليها. وبقيت في داخلي متضايقاً، لإدراكي أن هذا ما أراد. محزن أن أعثر على المناسبة الآن: أيها النقيب، يا لك من أزهري عندما تحاضر أيضاً.. . .