مأمون فندي

 كيف نفكر في حالة الذعر التي سادت لندن يوم الأربعاء الماضي، نتيجة فعل قام به رجل بريطاني خمسيني يحمل سكينا؟ وماذا نستخلص من هذا في إطار طبيعة الإرهاب واستراتيجيات مكافحة الإرهاب؟ وهل نقلل من قيمة الأدوات البسيطة مثل السكين في تقييمنا لأي حادث إرهابي؟ أم أن الإرهاب لا يتعلق بالأدوات؟ وهل الاستهانة بالأدوات تعرضنا لأخطار أكبر، أم نضع الأمر في نصابه ونراه في حدوده، ولا داعي لكل هذا الذعر والهلع؟ وما تبعات ذلك على مجتمعاتنا وثقافتنا؟ وهل يعفينا أن الحدث بعيد عنا وفي بلد آخر، أن نمعن النظر في أمراضنا الاجتماعية لنواجهها؟


نعم، حادث الإرهاب حول البرلمان البريطاني لم يكن سيارة تحمل طنا من المتفجرات، ولم يدبره رجل يحمل مدفعا رشاشا، إنما رجل يحمل سكينا قتل بها رجل البوليس وسيارة خرجت عن الطريق فقتلت وجرحت كثيرا من المارة، ومع ذلك فإن حالة الذعر التي سادت المدينة هي مبررة في نظري.
بداية علاقة الأشياء اليومية البسيطة بالإرهاب ليست جديدة، ويجب إلا يستهان بها، فإذا تذكرنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والتي تعد أعلى درجات الإرهاب في القرن الحادي والعشرين، وتأملنا أدواتها نجدها أيضا أدوات بسيطة، فلم يكن مع الإرهابيين سوى تذكرة طائرة وسكينة لقطع الصناديق الورقية، ومع ذلك اختطفوا أربع طائرات، اثنتان منها دخلتا في برج التجارة العالمي، والثالثة سقطت إلى جوار مبنى الدفاع البنتاغون، والرابعة لم تصب هدفها وسقطت في بنسلفانيا. وحلت بعد ذلك كارثة بالولايات المتحدة والعالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. القصة إذن ليست إرهاب التكنولوجيا العالية أو إرهاب التكنولوجيا البدائية (low tech vs. High tech) فالإرهاب له طرقه ووسائله التي لا ترتبط كثيرا بالتكنولوجيا بقدر ارتباطها بمساحات الضعف في بنية المجتمعات الحديثة وما بعد الحديثة، التي تعطل أجهزتها رسالة من كومبيوتر في أدنى الأرض.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيضا تعرفنا على رجل الحذاء (shoe bomber) الذي كان قادما من بريطانيا إلى أميركا، والذي كان يضع المتفجرات في حذائه. ثم تعرفنا بعدها على الرجل الذي دخل إلى مجلس الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية يومها واضعا العبوة الناسفة داخل جسده. إذن القصة ليست ما لدى الإرهابيين من معرفة بوسائل التفجير وأدواته، وما لديهم من إمكانية زراعة الخوف والذعر، بل القصة أكبر وأوسع. القصة لا تخص الأدوات (hardware) بقدر ما تخص العقول والقلوب (software). المشكلة أعقد وأعمق لأنها تخص النفس البشرية ومكنوناتها وفهمها لعلاقتها بالنفس وبالآخر المختلف.
يبدو سهلا أن نقول: إن ضحايا هذا العمل الإرهابي إلى جوار البرلمان البريطاني ليسوا بكثيرين، لأن الضحايا ليسوا بالمئات كما في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الحقيقة هي أن استمرار ظاهرة الإرهاب ما زال هو التحدي الأكبر للعيش في العصر الحديث، كما أن طريقة تعاملنا معها بتبادل الاتهامات بين المجتمعات والأديان تزيد من الظاهرة ولا تقلل منها.
العالم اليوم كل متكامل ويحتاج إلى استراتيجية كبرى للتعامل مع الظاهرة تتجاوز حدود الدولة وحدود المجتمعات.
وبداية التفكير في استراتيجية المكافحة هي التركيز على الثقافة وعلى العقول والقلوب قبل الأدوات، وهنا أقصد التعليم، وخصوصا زرع ثقافة التعايش في عالم واحد، وإدراك أن ما يقوم به أي فرد من أعمال تخريبية لا يضر أعداءه فقط، بل سيعود عليه وعلى قومه بالخسارة الأكبر.
مقاومة الإرهاب تتطلب إدراكا كاملا لمثلث إنتاج الظاهرة الإرهابية وهو: أولا المنظمات الإرهابية المنفذة من «داعش» إلى «القاعدة» إلى الجماعات المتطرفة المختلفة؛ أما الضلع الثاني في هذا المثلث فهو الدول الراعية لهذا الإرهاب، وهنا يأتي الحديث عن دور إيران في تغذية هذه الظاهرة خلال الثلاثين عاما الماضية؛ أما الضلع الثالث في مثلث الإرهاب فهو البيئة المنتجة للظاهرة أو الحاضنة الاجتماعية الأوسع، التي تجعل العمل الإرهابي يبدو مقبولا كأداة لمواجهة ظلم. الثقافة الحاضنة هي المنتج والحامي الأول للإرهاب والإرهابيين.
بلغة أخرى بقدر أهمية التفجير لا بد أن نأخذ في اعتبارنا في مكافحة الإرهاب ثقافة التبرير التي تسيطر على المجتمعات، تلك الثقافة التي ترى أن أعمال العنف مبررة في مواجهة ما نظنه ظلما واقعا علينا.
نعم الذعر والإرهاب كانا في لندن الأسبوع الفائت، ولكن الأساس عندما نكتب بلغتنا أن نتحدث عن هذا المرض الذي يضرب مجتمعاتنا، ويجعل عيون العالم كلها علينا كمصدر ومنتج لظاهرة الإرهاب. ليس من العدل أن نقول إن مجتمعاتنا وحدها أنتجت هذه الظاهرة، فقد ظهر الإرهاب في ثقافات أخرى من اليابان إلى أوروبا ذاتها، ومع ذلك الإرهاب اليوم التصق بنا وبمجتمعاتنا وثقافتنا وطرق تعليمنا ومناهجنا ومدارسنا، ولن يفيد كثيرا دفن الرؤوس في الرمال، علينا أن نكون في مواجهة حاسمة وشاملة ضد ظاهرة الإرهاب.
مجتمعاتنا وثقافتنا ليست مدانة، ولكنها مصابة بفيروسات التخلف وكراهية الآخر. نقول في لحظات الرخاء إننا مع التعايش العالمي بين الثقافات والأديان، ولكن في لحظات الأزمة لا يختلف خطاب النخبة عن خطاب الغوغاء في كراهية الآخر. مجتمعاتنا وثقافتنا تحتاجان إلى وقفة جادة في مواجهة الإرهاب، فهل نحن فاعلون؟. . . .