مروان كنفاني 

قابلت الرئيس عرفات للمرة الأولى في مبنى جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1968، ولم تنقطع علاقتي معه إلا باختلاف أمكنة المهمات التي شغلتها معه حتى استشهاده عام 2004. وقابلت الشيخ أحمد ياسين لللمرة الأولى في القاهرة أيضاً حين رافقت الرئيس عرفات لزيارته مستشفى القوات المسلحة المصرية بعد إطلاق سراحه من السجن في إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1997، ثم تكرر لقائي وتواصلي معه غالباً في منزله في حي الزيتون في مدينة غزة. جمعت بين هذين القائدين صفات وسجايا كثيرة متشابهة، كان كلاهما مؤمناً إيماناً مطلقاً بعدالة قضيته.

أخبرني الشيخ ياسين أنه لم يُولد مشلولاً، ولكن أصيب بالشلل في سنوات شبابه المبكرة نتيجة حادث تعرّض له وهو يلعب مع أقرانه على شاطئ بحر غزة. استبدل الشيخ صعوبة الحركة ببراعة البحث والقراءة والاطلاع، وتمكّن من التفقه في علوم الدين واعتنق مذاهب الإسلام السياسي وأصبح، بعد انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، مقتنعاً قناعة كاملة بدور الدين كمحفّز أساسي في العمل لتحرير فلسطين، على عكس الرئيس عرفات الذي قادته تجاربه وقناعاته بالتمسك بالطبيعة القومية والمدنية للصراع مع العدو الصهيوني على رغم تديّنه الصادق والتزامه الواضح الشريعة الإسلامية.

قد يكون أكثر ما ميّز القائدين هو القناعة بالدور الرئيسي والرائد للفلسطينيين أنفسهم في تحرير بلادهم. الأمر الذي كان للرئيس عرفات فيه قصب السبق قبل أكثر من ربع قرن من الزمن. تماهى الزعيمان أيضاً في قدرتهما على تحقيق التوازن داخل تنظيميهما، والحيلولة دون الاستقطاب والتنافس والخلاف، على رغم أنهما لم يستطيعا منع محاولات الانشقاق والاختلاف الداخلي. تعرّضت حركة «حماس» لانشقاق تأسست بعده حركة «الجهاد الإسلامي»، وواجه عرفات انشقاقًا داخل حركة «فتح» حظي بتأييد سوري عام 1983 كما كانت هناك محاولة انشقاقية أخرى لم يكتب لها النجاح تحت مسمّى «فتح الإسلام». تركت تجربة انشقاق القيادي أبو نضال، بتأييد عراقي هذه المرّة، سابقة مؤلمة نتيجة لجوء ذلك الانقسام للاغتيالات التي استهدفت قادة فتحاويين تاريخيين أثناء تواجد الحركة ومنظمة التحرير في تونس. غير أنه وفي شكل عام تم للزعيمين فرض نوع من الالتزام الحزبي خلال عقود من الزمن. كان لدى الشيخ مساعدون وقادة ينتهجون التصلّب والتطرف، كما كانت حركة «فتح» حبلى دائماً بالأفكار المتضاربة اعتدالاً وتطرفاً، شهدت سنوات التسعينات من القرن الماضي مواجهات كادت تؤدّي إلى حرب مفتوحة بين حركتي فتح وحماس على غرار ما حدث في صيف عام 2007، لولا وجود القائدين التاريخيين اللذين اشتركا في رفض سفك الدم الفلسطيني.

 

الاستشهاد في السنة نفسها

لم أستطع أن أمنع نفسي، في كل المناسبات واللقاءات مع الشيخ الجليل أحمد ياسين، من الإحساس بأني في حضرة ناسك بسيط صادق، دائم الابتسام، صابر على آلامه الجسدية، خفيض الصوت واسع الصدر شديد التهذيب. كان رحمه الله مسموع الكلمة من كل أنصاره، صارم السيطرة الهادئة على تصرفاتهم وطاعتهم. زرت الشيخ مرّات عدة في منزله كان في معظمها محاطاً بكبار معاونيه، وأقربهم إلى قلبه كما شاهدت وعلمت كان السيد إسماعيل هنية. كان دائماً يوصيني مودعاً بالسلام على الرئيس عرفات، سألته ذات مرة بأن يذكر الرئيس عرفات في صلاته ودعائه، فأجاب مبتسماً بأنه يدعو له دائماً بالهداية، وأجبته بأن ذلك الدعاء يجب أن يشتمل كليكما حتى يكون له قبول، فقال إن شاء الله، ثم تمتم بصوت منخفض بكلمات عن الرجال والوفاء. شاء القدر أن يؤكد أوجه التشابه في حياة الزعيمين التاريخيين للشعب الفلسطيني ومصيرهما، حيث استشهد كلاهما في عام واحد بفارق ثمانية أشهر. يخيّل إلي دائماً أنه لو قدّر الله بقاء الرئيس عرفات والشيخ أحمد ياسين، لما واجه شعبنا ما يواجهه اليوم من انقسام وتفرقة.

تعلّمت من الرئيس ياسر عرفات معظم ما أعرف عن السياسة الواقعية المنفتحة من غير تحيّز، الصلبة من غير تحجّر، وأدين له بمشاركتي في تجربته الواسعة مع الحياة والناس، كنّا نقضي أوقاتاً طويلة في أحاديث بعيدة من السياسة والإدارة، يسرد فيها رؤيته للحياة وما أعطته وأخذت منه، كان إنساناً مؤمناً بصدق كما يكون الإيمان، بعيداً من العقوبة قريباً من العفو. يتّصف العمل في الدائرة المحيطة بالرؤساء بالتيقظ والانتباه، والحروب الصغيرة التي تدور في تلك الحلقة بهدف التفرّد والظهور، وهو أمر يأخذ أحياناً كثيراً من الحرص لتوقّي شر التحالفات الوقتية والمحاولات المشتركة التي يتغيّر أعضاؤها، وتتنوع أهدافها، وفق تطّور العمل وحجم الثقة التي يوليها الرئيس. كان العمل مع الرئيس عرفات شاقّاً ومتنوّعاً ليتواءم مع حيويّة الرئيس وقدرته وصبره على العمل ساعات طويلة. ولكن العمل اللصيق مع الرئيس الفلسطيني كان مثيراً أيضاً وملهماً ومصدراً للتعلّم والمعرفة. يقرأ الرئيس كل يوم مئات البرقيات التي ترده من سفاراته وممثليه والمتطوعين الذين ينتشرون في مختلف بقاع الأرض ومن جواسيسه وأصدقائه، ويطّلع كل صباح على المتوفر في ما يتعلق بفلسطين وقضيتها من قرارات جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وتقارير وزارات عربية وأجنبية ومحاضر جلسات الكونغرس الأميركي، والكنيست الإسرائيلي والاتحاد الأوروبي، ويراجع أسعار العملات والذهب والفضة في أسواق المال العربية والدولية، ويدعو إلى اجتماعات يومية للمجلس العسكري، وقيادات فتح، ومسؤولي منظمة التحرير، ويستقبل مراجعين وأصدقاء وضيوفاً وصحافيين، ويتناول وجبة الغداء في غرفة ملحقة بمكتبه حيث يجتمع المدعوون والضيوف مع العاملين في مكتبه والحرس المناوب، وأحياناً أطفال مدارس الأيتام. يخصص الرئيس ساعات الليل المتأخرة لقراءة الرسائل التي ترده من المواطنين الفلسطينيين من كل أنحاء الوطن والمهاجر، ومواطنين عرباً، معظمها يعكس الدعم والتأييد وبعضها يطلب منه العون بأنواعه.

 

توسع مبكر لـ «الاخوان»

قد يكون سماح قيادة الإخوان المسلمين بمشاركة مواطنين فلسطينيين في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها وترأسها المرحوم حسن البنّا في مصر عام 1928، هو أول محاولات الجماعة في توسعها وتواجدها في البلاد العربية والإسلامية. ويصعب التحديد الزمني لتبلّور التفكير في إنشاء فرع مستقل لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. عمل الإخوان الفلسطينيون كأعضاء في الجماعة في مصر، وانضمّوا إلى خلاياها وتفرعاتها على قدم المساواة مع منتسبي الجماعة المصريين. ومن الثابت أيضاً أن هؤلاء لم يباشروا أو يشاركوا في أي نشاط كتنظيم دعوي أو قتالي في فلسطين قبل حرب عام 1948 أو بعدها، ما عدا فترة قصيرة امتدت منذ صدور قرار التقسيم في تشرين الثاني1947، وانتهت بالتوصل للهدنة الثانية بين المصريين والإسرائيليين عام 1949، حيث شاركت مجموعات من جماعة الإخوان في كتائب المتطوعين المصريين الذين توافدوا إلى فلسطين والتي ساهم في عضويتها بعض قليل من الإخوان الفلسطينيين. شاركت تلك الكتائب المتطوعة في أعمال قتالية ضد العصابات الصهيونية، ثم تعاونت كرديف للجيش المصري الذي دخل الأراضي الفلسطينية رسميّاً في 15 مايو (أيار) عام 1948، وانتهت مهمتهم مع التوصل لاتفاقات الهدنة بين مصر وإسرائيل عام 1949.

على عكس الهدوء الذي شهدته أنشطة الإخوان المسلمين الفلسطينيين في الساحة الفلسطينية، فقد ساهم الأعضاء الفلسطينيون في الجماعة، في الساحة وعلى الأرض المصرية، بمشاركة واضحة وملموسة وأدوار قيادية ميدانية وقتالية في المواجهات مع كافة الأنظمة التي حكمت مصر، وبخاصة في مرحلة صدامهم مع النظام السياسي المصري الذي قاده المرحوم جمال عبدالناصر بعيد ثورة 23 يوليو (تموز) عام 1952. وتم اعتقال وسجن وإعدام عدد من الإخوان، بعضهم من الفلسطينيين، في تلك الفترة التي يستعمل الإخوان المسلمون لوصفها تعبير «المحنة». تكرر استعمال هذا التعبير من قبل الإخوان المسلمين، الفلسطينيين هذه المرة، لوصف علاقتهم مع نظام الرئيس الراحل ياسر عرفات في الفترة ما بين عامي 1995 – 2000.

جاءت الولادة الرسمية لحركة «حماس» عام 1987 متأخرة ثلاثة عقود تقريباً عن بدء العمل السياسي والقتالي لمنظمات وتنظيمات فلسطينية عتيدة، ونحو ثلاثة وعشرين عاماً بعد إنشاء التنظيم الأساسي والموحّد، منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعترفت بها قانونيّاً الدول العربية بأسرها والغالبية من الدول الإسلامية، كما اعترف بها واقعيّاً معظم دول العالم. وكما جاءت ولادة حركة «فتح» تحمل معها رفض الفكر السياسي لمن سبقها من الفصائل والأحزاب الفلسطينية، مثل حزب البعث وحركة القوميين العرب وغيرها، رفضت حركة «حماس» منذ بداياتها الأولى كل مؤسسات ما قبلها ومنطقه وتاريخه، وأطلقت الجهاد فريضةً والمقاومة شعاراً، ورفضت التفاوض أو التعايش مع «الكيان اليهودي»، الأمر الذي لقي ترحيباً شعبيّاً وتأييداً من قطاعات عريضة من الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية وبعض الدول العربية والإسلامية. هكذا تم تحضير الأرضية الفكرية والعمليّة لصدام دام بين التنظيمين الأكثر شعبية لدى الفلسطينيين.

أعلنت «حماس» منذ بداياتها أن عدوها الأساسي هو إسرائيل، إلاّ أنها أيضاً ومنذ اليوم الأول لقيامها أشهرت الحرب على حركة «فتح» وعلى منظمة التحرير الفلسطينية وتاريخهما وأهدافهما على رغم أن الأخيرتين لم تكونا بعد طرفاً في أيّ مفاوضات مع إسرائيل، ولم يكن قد أُعلن بعد قيام الدولة الفلسطينية عام 1988 على الأراضي المحتلة في عام 1967، ولا كان اتفاق أوسلو قد وُلد بعد. لم تتوانَ حركة فتح من الرد على تلك الاتهامات بإعادة الروايات عن شهر العسل بين أجهزة الأمن الإسرائيلية وحركة حماس، وعن اتفاق مزعوم حول مؤامرة إسرائيلية لتسهيل إعطاء إنجازات ودور فتح إلى تنظيم حماس. ابتدأ الرئيس عرفات في تاريخ مبكر محاولاته للتوصل الى فهم سبل التعامل مع هذا التنظيم الجديد الذي كان يبدو مختلفاً عن التنظيمات الفلسطينية الأخرى التي استطاع استيعابها خلال سنوات طويلة وتمكّن من ترويضها.

 

تنظيم متماسك

كانت حركة «حماس» تختلف عن الفصائل الفلسطينية الأخرى في أبعاد أساسية: تماسك التنظيم وقوته واستقلاله، وتماسك قياداته وطاعتها، عضوية وأنصار وجماهير واسعة وبساطة عرض أفكارها. وقد شهدت لقاءات عدة للرئيس عرفات، في عمّان والسودان، مع بعض قادة وأصدقاء حركة «حماس» في الخارج منذ أوائل التسعينات وحتى قبيل عودتنا إلى الأراضي الفلسطينية عام 1994، وعلى رغم أن تلك اللقاءات كانت هادئة وودّية فإنه كان واضحاً خلالها الاختلاف في الفكر والعمل. كان لقائي الأول مع كوادر وقيادات الصف الثاني في حركة «حماس» في بدايات عام 1990 في الخرطوم بعد فترة قصيرة من انقلاب الرئيس البشير الذي كان متحالفاً مع جماعة الإخوان المسلمين السودانية. كانت الخرطوم يومها تحتضن عدداً كبيراً من شباب الحركة الذين يدرسون في المعاهد والجامعات السودانية والذين كانوا أيضاً يشاركون في تدريبات عسكرية في معسكرات يشرف عليها الجيش السوداني. اقترح الشيخ المرحوم حسن الترابي، زعيم إخوان السودان وحليف الرئيس البشير والذي كان أيضاً صديقًا للرئيس عرفات، أن يتم ترتيب لقاء بين الرئيس عرفات ومجموعة من الطلبة الفلسطينيين من حركة «حماس» الذين كانت العاصمة السودانية متخمة بهم. اعترض سفيرنا في الخرطوم، بعد مغادرتنا منزل الشيخ الترابي، على اقتراح الاجتماع بسبب تخوّفه من «عدم فائدة الاجتماع نظراً إلى قناعات الطلبة الصارمة واتهاماتهم وحجم الكره والرفض الذي يحملونه لفتح والمنظمة والرئيس عرفات»، تركت ملاحظات السفير تخوّفاً لديّ من الفائدة المنشودة للقاء، واقترحت أن يقوم أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، المرافق لنا، بتلك المهمة ولكن الرئيس عرفات حسم الأمر وقرر حضور الاجتماع. كان رأي السفير صائباً، وكان اللقاء كارثيّاً، وأدركت يومها حجم الغضب والكره والقناعة التي ولّدها التحريض، والهوة الكبيرة بين التنظيمين الفلسطينيين الأكبر والأقوى، والولاء الأعمى الذي عمرت به قلوب الشباب من شعبنا، الأمر الذي تأكدت منه في اليوم الأول الذي عدت فيه إلى الوطن مع أوائل العائدين إلى قطاع غزة في شهر أيار( مايو) من عام 1994.

 

دخول القوات الفلسطينية

في الثامن من أيار 1994 وصلت مع القافلة الأولى من قوات الأمن الوطني الفلسطيني والشرطة الفلسطينية لتسلم معظم قطاع غزة بما فيها مدينة غزة من الإسرائيليين وفق اتفاق غزة /أريحا الذي تلا اتفاق أوسلو. كان الرئيس عرفات قد طلب مني مرافقة القوات الفلسطينية لمعالجة البعد السياسي والإعلامي الذي سيترتب على دخول أول قوة أمنية وعسكرية فلسطينية للأراضي المحتلة. في الاجتماع الذي عقده الرئيس عرفات في قصر الأندلس، المقر المخصص من الحكومة المصرية لإقامته في زياراته المتكررة القاهرة، مع القادة العسكريين المقرر مغادرتهم مع قواتهم فجر اليوم التالي حذّر الرئيس من التورط في اشتباكات أو تصادمات داخلية، وأشار إلى ما كان ينشر في الصحافة، من مصادر إسرائيلية غالباً، عن وفرة السلاح في قطاع غزة، وأبدى تخوّفاً من احتمالات وقوع اشتباكات مسلّحة. أعطى الرئيس أوامر صارمة بعدم الاشتباك أو الصدام مع المواطنين الفلسطينيين لأي سبب أو تحرّش كان. ذهبت في وقت متأخر ليلاً لتوديع الرئيس الذي كان يكرر اعتذاره لطلبه مني مرافقة القوات، وتأثره من إرسالي بعيدًا عنه في هذه الفترة الهامة، وأوصاني بالحذر وعدم المخاطرة، وأشار مرة أخرى بحرمة الاقتتال الداخلي، والانتباه لتصرفات وتصريحات الجميع في ما يتعلق بالإسرائيليين وعملية السلام، وطلب مني أن أنتبه في أحاديثي الصحافية إلى أننا يجب ألا نبدو راضين عن اتفاق أوسلو، أو داعمين بالمطلق له، بل يجب أن نصّر دائماً على تنفيذ إسرائيل التزاماتها المترتبة على الاتفاق في شكل يؤدي إلى إزالة الاحتلال تماماً عن الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة، بما فيها القدس. حذّرني الرئيس عرفات مرة أخرى من الاقتتال الداخلي، وقال إن سلاحاً كثيراً توفّر في غزة أخيراً، ولا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحصل بعد دخولكم للأرض الفلسطينية، وأنه شخصّياً متأكد من أن البعض سوف يحاول أن «يجسّ نبض» القوات الأمنية الفلسطينية.

بعد أيام ثلاثة قضيناها بانتظار تكامل القوات ووصول الأسلحة والذخيرة، خرجت قافلة القوات الفلسطينية قبيل الفجر من معبر رفح الذي كان يسيطر عليه الإسرائيليون باتجاه الشمال، كانت المنطقة المحيطة بالمعبر ما زالت غارقة في ظلام دامس، وعلى ضوء مصابيح العربات التي كانت تقلّنا وتتحرك ببطء كنت أسمع من بعيد أصوات جماهير محتشدة وأنوار خافتة تلوح في الأفق. كان الجيش الإسرائيلي قد أقام حواجز عسكرية لمنع المواطنين الفلسطينيين من الاقتراب من محيط المعبر. وفي المسافة التي امتدت من باب الخروج من المعبر الإسرائيلي إلى حيث احتشدت الجماهير على بعد كيلومتر تقريباً، جالت في ذهني خواطر متضاربة تراوحت بين الفرح بالعودة إلى أرض الوطن، والخوف مما ينتظرنا، والقلق من أية مشكلات أو صدام، والترقب لمعرفة مشاعر الفلسطينيين الحقيقية حول ما تم وفق اتفاق أوسلو. كانت تلك مشاعر واقعية نتجت عن الأخبار التي كان يتم تداولها في الصحافة وفي قاعات الاجتماعات والمناقشات بيننا. كان هناك تخوّف حقيقي وملموس، حتى عند الرئيس عرفات، من الأنباء عن تدفق السلاح على قطاع غزة وعن نية وترتيبات إسرائيل لخلق حالة صراع داخلي فلسطيني، الأمر الذي تم تحذيرنا منه مرات عديدة من قبل الرئيس عرفات شخصياً.

 

في سرايا غزة

كان الجميع صامتاً داخل العربة العسكرية التي تقلّنا، وفجــأة دوى صوت تلقيم الرشاش الذي كان بحوزة الحارس الجالس بجانب السائق، ونهره اللواء قائد القوات نصر يوسف، الجالس بجانبي ليعيد تأمين الســـلاح في اللحظة ذاتها التي لاحت فيها الجماهير المحتشدة أمامنا بوضوح، آلاف الرجال والنـــساء والأطفال، بحر من الأعلام والرايات، ســـد بشــــري عاصـــف بالمشاعر والحماس، وانهمرت زخّات مثل المطر من الزهور والحلوى والأرز علينا وعلى العربات التي لم تستطع الاستمرار في السير، وانتزعت الجماهير الأعلام الفلسطــــينية التي حملتها السيارات، وقفز الشباب والأطفال فوق المركبات يلوحون بتلك الأعلام.

خيّل إلي عندها أن هذه كانت العودة التي حلمت بها دائماً، في توافق وانســجام غريبين لما تخيلته، وتمنيته، طوال السنين التي عشتها، ها نحن نعود إلى بلادنا في سيارات عسكرية، حاملين سلاحنا، رافعين أعلامنا، تحتضنّا جماهير شعبنا، تمامًا كما حلمنا، تمامًا كما تمنينا. لم يعد هناك أي مساحة في ذهني لما قد يكون في انتظارنا خلال السنين المقبلة.

لم يمض وقت طويل على دخولنا إلى «سرايا» مدينة غزة حتى تحقق ما ذكره الرئيس عن «جس النبض»، إذ بينما نحن في إحدى غرف السرايا بغرض توزيع وجبة العشاء للجنود، دوّت طلقات بندقية آلية أمام مدخل السرايا الرئيسي، وهرع الجنود والضباط بأسلحتهم باتجاه بوابة المقاطعة لمعرفة ما يحدث، ثم عادوا ومعهم شاب في مقتبل العمر وقطعة من السلاح التي يبدو أنه استعملها لإطلاق النار أمام مدخل المقاطعة. أخبرني أحد الجنود بأن الشاب من حركة «حماس»، الأمر الذي لم أعرف كيف أتأكد منه. أمر اللواء نصر بوضع الشاب في إحدى الغرف، ولمّا كانت الغرف جميعها بدون أبواب نتيجة نهب محتوياتها من قبل الجيش الإسرائيلي فقد اقتضى تنفيذ الأمر مجرد وضع كرسي من البلاستيك أمام مدخل الغرفة ووقوف أحد الجنود إلى جانب الكرسي. لم يمض أكثر من نصف ساعة على الحادث حتى اتصل بي مكتب الرئيس في تونس، وتبعه صوت الرئيس يسأل مباشرة عمّا حدث عندنا، ولم أكن أنا أو أحد من الموجودين في الغرفة قد أبلغه عن الحادث بعد. شرحت للرئيس عرفات ما حدث وأبلغته بأنني شخصيّاً غير متأكد من الجهة التي يتبعها الشاب، وجاء ردّه القاطع بإطلاق سراح الشاب فوراً. عندما أعطيت الهاتف للواء نصر، باعتباره المسؤول العسكري الأول، للحديث مع الرئيس عرفات، حاول اللواء بإصرار أن يقنع الرئيس بالاحتفاظ بالشاب رهن الاعتقال حتى لليلة واحدة، رفض الرئيس ذلك بل وطلب إعادة قطعة السلاح للشاب وإطلاق سراحه فوراً، الأمر الذي تم بعد تنبيه اللواء نصر الضابط الذي كلفه بتنفيذ أوامر الرئيس وبمصادرة الطلقات المتبقية في السلاح الذي كان، بعد الكشف عليه، فارغاً من الطلقات تماماً.

بعد حادثة إطلاق النار على السرايا بأقل من ساعة لاحظت وجود عدد من الشباب المسلّحين والملثّمين الذين اعتلوا جدران مبنى السرايا والمنطقة المحيطة بها، عاد الضابط الذي أرسله اللواء نصر يوسف لمعرفة ما يحدث ومعه أحد الملثمين الذي كان يبدو أنه قائدهم، وأخبر اللواء أنهم مقاتلون من حركة فتح وأنهم حضروا لمقاومة أي اعتداء على القوات من أيّ طرف كان، كان هذا الاستنفار الفتحاوي رد فعل واضحاً لإطلاق النار الحمساوي وإشارة إلى استعداد الطرفين للمواجهة المسلّحة. شكره اللواء ورحّب به وطلب منه، ليس بصفته قائد القوات فحسب بل لأنه، أي اللواء، عضو رفيع الرتبة في حركة فتح، بمغادرة المكان، الأمر الذي نفّذه الشاب بامتعاض واضح.

في الفترة السابقة لعودة الرئيس عرفات إلى الأراضي الفلسطينية في الأول من تموز 1994، سيطر على تفكيره، نتيجة تقارير كانت تصله باستمرار من الأراضي الفلسطينية، هاجس تدفق الأسلحة على الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة في شكل خاص. وانعكس ذلك القلق بوضوح في اتصالاته السياسية كافة، وكذلك تصريحاته الصحفية وأحاديثه الداخلية. أثار الرئيس عرفات هذه الهواجس والتخوفات أثناء لقاءاته مع الرئيس المصري والملك حسين وعدد من الرؤساء والسياسيين العرب والأوروبيين والرئيس التركي، كما أبلغ الأميركيين بذلك مباشرة. كان عرفات لا يزال متشككاً من نيات إسرائيل تجاهه شخصيّاً وتجاه عملية السلام برمتها، وانتابه قلق حقيقي من «مؤامرة» إسرائيلية لتشجيع أو تحضير الظروف التي تسمح باقتتال فلسطيني داخلي قد يدمّر التوافق الوطني والعمل الجماعي الفلسطيني الذي كانت تمثله منظمة التحرير الفلسطينية. أثناء وجودي في قطاع غزة تم استكمال استقرار القوى الأمنية وتوزيعها، وبدأت الشرطة الفلسطينية عملها، واتجهت مع اللواء نصر برّاً إلى مدينة أريحا على الحدود الفلسطينية الأردنية حيث استقبلنا قوات جيش التحرير الفلسطيني التي كانت متمركزة في الأردن.

 

استقبال تاريخي

أبدى الرئيس عرفات يومها أيضاً تخوّفاً من برامج وسياسات بعض المنظمات والفصائل السياسية الفلسطينية الموجودة على الأرض في الداخل والرافضة عملية السلام، وكذلك تلك التي تبنّت في الأصل موقفاً معادياً معلناً من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح». تحدث الرئيس عرفات يومها عن احتمالات وقوعه «بين نارين» ومن جهتين مختلفتين ومتعاديتين، تجمعهما لأسباب مختلفة مصلحة واحدة في التخلص من منظمة التحرير والسلطة الوطنية ومنه، أي الرئيس عرفات شخصياً. هذا التخوّف الذي تحقق فعلاً بعد عشر سنوات على عودته إلى أرض الوطن.

لدى عودة الرئيس عرفات الى الأراضي الفلسطينية في تموز 1994 والاستقبال التاريخي الذي قوبل به، أمضى فترة طويلة في استقبال الوفود التي انهمرت على غزة من أهالي القطاع ومن الضفة الغربية وكذلك من عرب 1948، وبات الرئيس في أزهى حالات الرضا والثقة. اســتمر هذا الهدوء النسبي لأسابيع عدة ليحل محله نوع آخر من «جس النبض» بين قوى حركة «حماس» من جهة، وبين القوة الجديدة الوافدة إلى الأراضي الفلسطينية، السلطة الوطنية الفلسطينية وعمودها الفقري حركة «فتح»، من جهة أخرى. كانت حركة «حماس» في تلك الفترة قد ترعرعت وانتشرت داخل المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وشاركت في الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي قادها عملياً وسياسياً الرئيس عرفات من مكان وجوده في تونس، وردّت إسرائيل بالغارة الجوية على مقر عرفات في ضاحية «حمام الشط» بالقرب من تونس العاصمة. وتسببت تلك الغارة في استشهاد أكبر عدد من قيادات وكوادر حركة «فتح»، منذ اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت عام 1982.

خلفيات فكرية متناقضة

ابتدأ «جس النبض» الحقيقي والرد على اتفاق السلام الفلسطيني الإسرائيلي في صيف عام 1994، قامت «حماس» بعمليات عدة لمهاجمة المستوطنات الإسرائيلية في محيط قطاع غزة أو على أطرافها. تدخّل عامل جديد، خارجي هذه المرة، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في شكل أساسي، تحدثت عن ضرورة التعامل مع هذه الأصوات في شكل حاسم، وتعرّض الرئيس عرفات في تلك الفترة لتوالي النصائح والتحذيرات من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مترافقة مع تهديدات رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي بضرورة وضع حد لهذا النشاط والأعمال العسكرية المتعارضة مع الاتفاقات التي تم التوصل لها بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. أصدر الرئيس عرفات، بعد تلكؤ طويل ومحاولاته للتوصل إلى تفاهم في هذا الشأن مع قادة «حماس» في الداخل والخارج، أوامره للأجهزة الأمنية باعتقال عدد من نشطاء وقيادة حماس والجهاد والجبهة الشعبية، تم ذلك بعد مرور أقل من شهرين على وصوله إلى غزه.

كانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد تشكّلت في عجالة، وضمّت تلك الأجهزة المختلفة خليطاً متعدداً من شرائح المجتمع الفلسطيني، ضباطاً من جيش التحرير الفلسطيني، وكادرات عسكرية من ضباط الصف والجنود القادمين من الخارج، ومجنّدين جدداً من المواطنين في الأراضي الفلسطينية غالبيتهم، نظراً إلى الظروف الاقتصادية والمعيشية، من قطاع غزة، وضباط وأفراد من المؤسسات الأمنية السابقة لحركة «فتح» في الخارج، وعدداً كبيراً من المطاردين ونشطاء الحركة في الداخل. كانت تلك التوليفة الأمنية الفلسطينية تحمل تنوّعاً واسعاً من أفكار وخلفيات، وتناقضات وعداء أيضاً لبعضها بعضاً. انقسم الجهازان الأمنيان الرئيسيان في قطاع غزة، جهاز المخابرات العامة وجهاز الأمن الوقائي، إلى مجموعتين مثّلتا شريحتين اجتماعيتين واسعتين ومتنافستين، هما شريحة «المواطنين» الأصليين للسكان في قطاع غزة، وشريحة «اللاجئين» لهذا القطاع من مناطق فلسطينية أخرى نتيجة حرب عام 1948 وما تلاها من حروب، ولم يمضِ وقت طويل على إنشاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية حتى بدأ الصراع والتنافس بينها على النفوذ والمصالح، ووصل الأمر إلى صدامات واشتباكات.

ابتدأت حركة «حماس»، منذ نهايات عام 1994 في تقييم وضعها السياسي والميداني في ظل المعطيات الجديدة التي فرضتها عملية السلام وقيام السلطة الفلسطينية بقيادة غريمتها الأساسية، منظمة التحرير الفلسطينية وعمودها الفقري حركة فتح، ولم يكن ذلك التقييم إيجابياً ولا واعداً على مختلف الأصعدة الداخلية الإقليمية والخارجية. لم تكن هذه الظروف الجديدة بعيدة من تفكير قادة حركة حماس في تقييمهم للأوضاع على الأرض حيث كانت حركة حماس عاجزة عن مواجهات مباشرة مع قوات السلطة الوطنية وغير قادرة على إسقاطها أو مقاومتها. من ناحية أخرى، فإن فكرة المشاركة في الوضع الجديد الذي تقوده السلطة الوطنية قد تهاوت سريعاً، حيث أن التعاون مع السلطة الجديدة في تلك الفترة، من وجهة نظر حركة حماس وكوادرها، كان يعني تراجعاً كاملاً عن برنامجها الجهادي وأيديولوجيتها المعارضة عملية السلام، والتي كانت الورقة الرابحة الوحيدة لدى حركة حماس للتمييز والتمايز عن برنامج السلطة القائم على محاولة التوصل إلى حل سلمي تفاوضي يحقق بعض الأهداف الوطنية الفلسطينية المنشودة والتي عارضتها حركة حماس منذ البداية.

مروان كنفاني: من أوسلو إلى صراع «فتح» و «حماس»

مروان كنفاني: إنهاء انقسام الشعب الفلسطيني باعتماد رابطة المواطنة