كمال الذيب

النهج الطائفي من شأنه تمزيق الوحدة الاجتماعية للمجتمع، بل وإلى تمزيق الهوية الثقافية للشعب، خاصة إذا ما تعززت الطائفية بالعصبية، بما يؤدي إلى نوع من العصبية الاجتماعية المركبة، تتعدى على الدين وعلى الدولة وعلى العقلانية والمصلحة العامة، لتلج دهاليز اللاوطنية، فكرا وممارسة، وذلك لأنها لا تقيم وزنًا للوطن والمواطن والمواطنة.

ولا يمكن في هذا السياق القبول بالتبرير الوهمي الذي يردده البعض باعتبار الطائفية شكلا مرحليا للتعبير عن الوطنية، وذلك لأن الطائفية - وليست الطائفة - هي نقيض بالضرورة للوطن وللوطنية، حيث يقوم البعض وبالانتهازية السياسية والفكرية واقتناص الفرص السياسية باستغلال الحركات الطائفية، من أجل مصالحهم الشخصية، وليس من أجل مصالح الحركتين السياسية والاجتماعية، ومسيرة العملية الديمقراطية الحق، ولتتحول مفاهيم السنة والشيعة والعرب وغير العرب الأصلي وغير الاصلي، إلى قيم كاريكاتيرية يجري خداع فقراء وعمال الطوائف والقوميات المختلفة بها، وتسليم القيادات للقوى الاستغلالية المتخلفة، وليتذابح البسطاء بينهم، وهم يظنون أنهم يقدمون على الشهادة في سبيل الله والوطن والطائفة، وبذلك يعجز النظام الطائفي المستبد، عن إنتاج الحداثة وعن فهم الإسلام معًا فهمًا مستنيرًا، يكون في خدمة الحق والحرية والعدالة والمساواة بين المواطنين الأحرار.

 المصيبة بدأت عندنا، عندما نشطت تيارات دينية طائفية لتجنيد المريدين لمشروعها الطائفي الفقير البائس بالمعيار الوطني، وتمكنت في فترة وجيزة من تصدر الواجهة السياسية، والسير بالبلاد نحو الفتنة الداخلية، بحشو الأدمغة بالخرافات وبالمعارك الدونكيشوتية المستحضرة من ماضي تخلف الأمة، وقد راهنت بوضوح لإنجاح مشروعها الطائفي على بعض رجال الدين من ذوي الطموح السياسي، ليكونوا دعاة التحريض والفتنة في بعض الاحيان.

والحقيقة أن تشجيع الاستعمار في السابق للولاءات اللاوطنية كان سياسة ثابتة متعمدة، لبناء المؤسسات السياسية التي أقامها وفق مظلة الأفكار الطائفية، والإبقاء على البنية التقليدية بكل هياكلها الأساسية، وإبقاء الثقافات الظلامية والطائفية سائدة بين الشعوب. ولكن للأسف انه وحتى حين نشأت الحركات التحررية الوطنية والقومية، فإن هذه الحركات واصلت إعادة إنتاج الثقافة الطائفية والتخلف والجهل والتناحر، حين أضفت على الصراع الاجتماعي - السياسي الطبيعي، طابعًا غيبيا يخفي حقيقته وجوهره الاجتماعي والاقتصادي.

 وبهذه الطريقة تأسست الجمعيات السياسية من بين الجماعات المذهبية الغارقة في الطائفية والتي لا تسطيع ان تفكر او تتحرك خارج صندوق الطائفية والمرجعيات المحددة سلفا، على أساس إنكار الطابع الاجتماعي للحراك الاجتماعي والسياسي، تعبيرًا عن النظرة السطحية والطابع الديكتاتوري العميق داخل هذه الحركات، والذي يتجسد عمليًا في القمع العنيف لكل من يطرح المسألة الاجتماعية أو المسألة الثقافية على بساط البحث او التحليل، بل حتى الدين الحنيف (عامل الوحدة الروحية والثقافية الجامع) فإن الطائفيين يتعاملون معه تفسيرا وتأويلا واستخداما، بطريقة انتقائية فجة ومكشوفة، فيتحول عندهم إلى ما يشبه الاقطاع الخاص المحتكر طائفية وفقهيا بالكامل (فلا مجال لأي تأويل او تفسير خارج منظور النزعة التهشيمية والتفكيكية للبنيان الاجتماعي الناظم للوطن)، وبذلك يسعون لجعل الوطن غنيمة طائفية لزعماء الطائفية، في خدمة المشروع الطائفي المتناقض جوهريا مع المشروع الوطني.

ولذلك فإن المؤذنين لفظيا بمعاداة الطائفية واللاعبين وفق منطقها- مهما كانت مواقعهم وطوائفهم-هم اخطر على الناس والوطن من أولئك الذين يعلنون بوضوح بأنهم طائفيون، وأنهم يريدون اقتسام موارد الوطن ومناصب السياسة فيه بناء على المحاصصة الطائفية، فلا مجال، والحالة هذه، لأية حلول تلفيقية تخترع توازنات وهمية، وبدائل ذات مسميات محايدة شكلاً تغطي بها جوهرها الأيديولوجي المتخفي، وذلك لأن الطائفي الصرح في هذه الحالة يرفض البديل الديمقراطي الحقيقي الذي جوهره التعددية الفكرية، والتسامح والقبول بحتمية العيش المشترك، واحترام القانون. ولذلك نعتبر أن الخطر الحقيقي يتأتى من هذا النوع من الازدواجية المواربة المخادعة، لأنها في الوقت الذي تعلن فيه معاداتها اللفظية للطائفية، تقوم بإعداد الناس والبرامج والتحالفات لأنواع من الاحتراب، من خلال بناء «عقيدة» استعلائية - تطهيرية، تصنف الآخرين «عدوًا» و«كافرًا» يجب التخلص منه، ولا ترى الحاجة إلى أي نوع من الشراكات الوطنية، وبالتالي تحارب أول ما تحارب المواطنة، باعتبارها عدوا لدودا للطائفية، ومن ثمة تدخل في صراع شامل مع جميع المكونات التاريخية للوطن ومؤسساته. فالوطن وفق هذه الجماعات الطائفية هو مجرد غنيمة طائفية للتقاسم والمحاصصة، التي يستفيد منها زعماء الطائفية وأحبابهم المقربون، وعندما يستعصي الوطن عن التحول إلى مجرد غنيمة، يعود هؤلاء إلى الدعوة لتشكيل نظام للمحاصصة، أو تقسيم السلطة - إذا استحال السيطرة عليها - والعمل على تغيير الأمور في اتجاه تغليب سلطة طائفة على طائفة أخرى. المهم عندهم هو غياب الوطن، والمواطنين متساوين: إما هيمنة طائفية، وإما محاصصة للحفاظ على النقاء الطائفي، ولما كانت أهداف هذه الجماعات لا وطنية، فهم لا يعبؤون بأية آلية وطنية للعمل السياسي، ويبقى جل اهتمامهم المحافظة على الجنات الطائفية وفراديسها المادية والاستحواذية.

ولذلك فإن الوعي بمخاطر الطائفية والفكر الطائفي، والمنطق الطائفي لا يكفي وحده لتجاوز مخاطر الطائفية، بل يجب أن يتم بذل جهد وطني تشاركي، (خارق للطوائف ومتجاوز لها ولأفقها التدميري) لمنع انتقال تأثير هذا الخراب إلى عقول الناس، وخاصة الناشئة، ودعوة الطائفيين - المكشوفين منهم والمتسترين - أن يكفوا عن اللعب بالجمر.