طلال صالح بنان

السياسة حركة صراع تدفعها قيم حول موارد محدودة مادية واعتبارية، من أجل الوصول إلى السلطة.. أو محاولة البقاء فيها. حركة الصراع هذه ليست بطبيعتها سلوكية، بصورة حصرية.. وليست بالضرورة عنيفة دموياً. في الديموقراطيات المتقدمة، تكون عملية تداول السلطة سلمية.. وهي، في جوهرها صراع أفكار وقيم وأيديولوجيات تتمحور حول الاختيار بين بدائل متقابلة، وقد تكون متضاربة، لخدمة مصالح متفاوتة، تعكس تعددية المجتمع.

يخطئ من يعتقد أن سلمية اللعبة السياسية في الديموقراطيات المتقدمة تخلو من العنف، على إطلاقه.. ومن السلوكيات غير الأخلاقية.. أو توقع انضباطها وتناسق حركتها. السياسة، بصفة عامة أبعد من أن تكون سلوكا نبيلا أو أمينا يخلو من أنانية البشر ومكرهم، مهما بلغت ثقافة المجتمع الديموقراطية ورفعة احترامه لقيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وأولوية المصلحة العامة. مع ذلك، تظل الديموقراطية، كما قال رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل: أفضل الأسوأ من أنظمة الحكم قاطبةً.

الديموقراطيات، لا تتجاهل هذه الطبيعة الصراعية للظاهرة السياسية... بل يحاولون، ولو نظرياً تخفيف حركتها العنيفة بآليات تختلف كفاءتها وفاعليتها من مجتمع لآخر، تبعاً للثقافة السياسية السائدة ومدى عراقة التجربة السياسية للمجتمع. حاولت الثقافة والممارسة الديموقراطية مواجهة الجدلية الفلسفية والعملية للحكم في أي مجتمع: تخفيف احتمالات استبداد السلطة عن طريق تغليب قيم حقوق الفرد وحرياته، بجعل إرادة الأخير وخياراته أساساً لشرعية مؤسسات السلطة ورموزها.

لذا في المجتمعات الديموقراطية المتقدمة يجري الحديث عن الحكومة، وليس الحاكم. حيث تُشتت السلطة بين مؤسسات، ولا تحتكر في يد فرد أو مجموعة من الأفراد. سلطات الدولة، في هذه المجتمعات، تتكامل في صيغة صراعية سلمية، ولا يفترض أنها تتعاون، في ممارسة مسؤولية الحكم والتمتع بامتيازاته وحماية حصانته. أفرع الحكومة تسودها سلوكيات المساومة والمناورة والتحالف والخصومة، وليس بالضرورة التعاون والوئام، ولا حتى تحقيق الصالح العام.

يوم السبت الماضي أعلن الرئيس الأمريكي فشله في إقناع الكونجرس بخطته للتأمين الصحي واستبدالها عوضاً عن برنامج أوباما للرعاية الصحية، بعد أن شعر بوطأة معارضة الكونجرس لها، مفضلا إرجاءها والتحول إلى قضية أخرى (الإصلاح الضريبي)، كما يصفه. الملفت هنا أن رئيسا جمهوريا في وجود أغلبية جمهورية في الكونجرس، فشل في ما كان قد وعد به ناخبيه في حملته الانتخابية، في ما يخص واحدة من أهم قضايا حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة... هذا أمرٌ نادر الحدوث في السياسة الأمريكية.

الملفت أيضاً، أن الرئيس ترمب استخدم الوعد والوعيد في محاولته إقناع الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس، في ما كان لا يأمل النجاح فيه مع الأعضاء الديموقراطيين، لاستغلال فرصة الأغلبية الساحقة للجمهوريين، التي قد لا تستمر في السنتين الأخيرتين من ولايته. من الملاحظ هنا: أن الرئيس ترمب هدد الأعضاء الجمهوريين، الذين يرفضون التصويت لصالح مشروعه للرعاية الصحية، بمعاقبة ناخبيهم لهم في انتخابات الكونجرس (2018). يبدو أن الأعضاء الجمهوريين خضعوا لتهديد الرئيس ترمب، لكن بطريقة عكسية! كل عضو في الكونجرس، بغض النظر عن ولائه وانضباطه الحزبي، عند تصويته لأي مشروع قانون في الكونجرس، تكون عينه على ناخبيه ودائرته الانتخابية، تحسباً لاحتمالات إعادة انتخابه واحتفاظه بمنصبه التشريعي، أو عدمها. هذا ما فعله الكثيرون من الأعضاء الجمهوريين، الذين فضلوا عدم التورط في التصويت لقانون لا يحظى بشعبية عند ناخبيهم، متجاوزين انضباطهم الحزبي.. ودعم رئيسهم الجمهوري.

كما أن الأعضاء الجمهوريين لا يريدون أن يربطوا مصيرهم السياسي، بمصير رئيس يعاني من تدني مستوى شعبيته. هذا مؤشر على ضعف الرئيس ترمب السياسي، وصعوبة تمريره لخطط برنامجه الانتخابي في الكونجرس، نظرا لتضاؤل أو تآكل شعبيته... الأمر الذي يفقده أية دالة سياسية حقيقية في الكونجرس، يمكن من خلالها تسيير أعمال إدارته، بفاعلية وثقة.

في السياسة، لا يمكن النظر إلى الأمور بمنظار أخلاقي ولا حتى بمنظار المصلحة العامة، إلا إذا كان ذلك يتسق مع مصلحة من هم في السلطة للبقاء فيها.. أو للطامعين فيها للقفز إليها. ما يردع أي مشتغل بالسياسة، حتى في الأنظمة الديموقراطية، هو احتمالات فقدانه لمنصبه السياسي في داخل المؤسسة التي يعمل بها وينتمي إليها. المصلحة الشخصية هنا للبقاء في السلطة أو محاولة الوصول إليها، هي التي تتحكم في سلوك السياسي المحترف في المجتمعات الديموقراطية، وإن كان الطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو عبر الإرادة الشعبية.

لعبة السياسة هي سلوك احترافي بامتياز تتحكم فيه الميول والمصالح الشخصية، من أجل البقاء أو المشاركة أو الحصول على السلطة.