أحمد يوسف أحمد

تُعقد غداً القمة العربية الدورية في البحر الميت بالمملكة الأردنية، والطريق إلى هذه القمة حافل بمسار طويل عبر سبعة عقود من الإنجازات والإحباطات، وإنْ كانت هذه الأخيرة قد أصبحت هي الملمح الشائع للقمم العربية في الأعوام الأخيرة، ولذلك أصبح من اللافت خفوت إنْ لم يكن تلاشي الرهان على أن تُحدث القمم العربية نقلات نوعية في الأوضاع العربية، وهو ما بدا واضحاً بصفة خاصة في قمة نواكشوط الأخيرة التي أحاطت بها ملابسات معروفة نقلت مكانها من المغرب الذي اعتذر عن عقدها إلى موريتانيا التي رحبت بها. لكن هذه الملابسات أضافت إلى مشكلات القمة مشكلة جديدة هي التدني اللافت لحضور القادة العرب.

وظهرت فكرة القمة في العمل العربي المشترك لمواجهة التهديدات المنذرة بخطر جسيم كما يبدو من انعقاد أول قمة في أنشاص المصرية عام 1946 بعد أن وصل الخطر الصهيوني على فلسطين ذروته. وعلى الرغم من أن القمة قد اتخذت قرارات جادة وجيدة إلا أن الأداء في التنفيذ كان سيئاً، فكانت الهزيمة العربية الأولى في 1948. غير أن القمة التالية التي دعا إليها الرئيس عبد الناصر في القاهرة في يناير 1964 ثم قمة الإسكندرية في سبتمبر من السنة نفسها، تمكنتا من إحداث نقلة نوعية في العمل العربي المشترك، أولاً بتأسيس القيادة العربية المشتركة لمواجهة احتمالات الصدام مع إسرائيل بسبب مشروعاتها لتحويل مجرى نهر الأردن، وثانياً بتأسيس كيان فلسطيني تمثل في منظمة التحرير الفلسطينية التي مثلت نقلة نوعية في نضال الفلسطينيين من أجل استعادة حقوقهم. وعلى الرغم من أن القيادة العربية المشتركة لم يُقدر لها أن تلعب دوراً فاعلاً في المواجهة مع إسرائيل، رغم وضع الخطط اللازمة لذلك، بسبب مواقف بعض الدول العربية، فإن منظمة التحرير الفلسطينية ظلت تقود النضال الفلسطيني حتى اعترفت بها إسرائيل بموجب اتفاقية أوسلو 1993.

وبعد هزيمة 1967، كانت القمة العربية في الخرطوم علامة فارقة في وضع استراتيجية للمواجهة السياسية لإسرائيل، وكذلك تقديم الدعم المالي المطلوب لإعادة البناء العسكري في دول المواجهة، ثم استطاعت القمة العاجلة التي دعا إليها عبد الناصر في سبتمبر 1970 أن توقف نزيف الدم في الصدام بين الفلسطينيين والسلطة الأردنية. وهكذا اكتسبت القمم العربية ثقة قطاعات واسعة من الشارع العربي، وكذلك النخب العربية، في قدرتها على المواجهة الفاعلة للتحديات وإنقاذ الأمة من المخاطر التي تتهددها.

غير أن فاعلية القمم العربية بدأت تخفت بالتدريج مع الانقسامات والاستقطابات العربية، سواء بسبب الخلاف حول قضايا تتصل بالعلاقات العربية البينية أو بالسلام المصري الإسرائيلي اعتباراً من النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي أو الغزو العراقي للكويت في 1990، وكذلك مع تفاقم الاختراق الخارجي للنظام العربي الرسمي، حيث أصبحت لغة قرارات القمة بعيدة عن المعنى الحقيقي للقرار. فهي مثلاً تؤكد أهمية التضامن العربي، لكنها لا تتخذ إجراءات عملية لتحقيقه، أو تتمنى على أطراف صراع عربي ما أن تتوصل إلى اتفاق فيما بينها، دون أن تقرر خطوات محددة لذلك، وتشدد على مركزية القضية الفلسطينية لكنها تدعو الآخرين كمجلس الأمن والقوى الكبرى إلى تحمل مسؤولياتهم.. وهكذا! وحتى عندما كانت تتخذ قرارات لها معنى، فإنها لم تكن تأخذ طريقها للتنفيذ. وعلى سبيل المثال، فإن القرارات الشاملة شديدة الأهمية لقمة عمان 1980 فيما يتعلق بالتكامل الاقتصادي العربي والتي لو نُفذ عشرها لأصبح العرب في حال غير الحال التي هم فيها، لكن لم يُنفذ منها قرار واحد. وكذلك «مبادرة فاس» 1982 التي صاغت فيها القمة العربية تصورها للتسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي في مواجهة صيغة كامب ديفيد التي انفرد بها الرئيس أنور السادات، وظلت تلك المبادرة على «الطاولة» عشرين عاماً حتى حلت محلها المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت عام 2002، ومرت عليها حتى الآن خمس عشرة سنة دون حراك.

وبسبب عدم تنفيذ القرارات، فإنها صارت قرارات «مزمنة» تتكرر حرفياً أو بطريقة شبه حرفية عبر القمم. وإذا كان لهذا وجهه الإيجابي المتمثل في «الثبات على المبدأ»، فإن له وجهه السلبي الذي يشير إلى انعدام الفاعلية في قضايا كثيرة بالغة الحيوية، لعل القضية الفلسطينية خير مثال عليها.

كذلك، فإن محاولات القمم المتعاقبة لتطوير الجامعة بتعديل نظام التصويت أو إنشاء أجهزة جديدة، يُفترض أن تعزز العمل العربي المشترك، كمجلس السلم والأمن أو هيئة متابعة تنفيذ القرارات وغيرها، لم تُفض إلى شيء.. فهل تخرج قمة البحر الميت عن هذا المنوال؟

قد يكون هناك في قمة البحر الميت ما يدعو للتفاؤل الحذر بسبب ظهور بعض المؤشرات التي تشير إلى احتمالات تهدئة في حدة الاستقطابات العربية العربية أو العربية الإقليمية، وهو الأمر الذي لو صح يمكن أن يساعد كثيراً على مواجهة التحديات الجسيمة الراهنة التي تواجه الأمة العربية، كذلك لا شك في أن انعقاد القمة على أرض الأردن المعروف بدبلوماسيته النشطة وعلاقاته العربية التوافقية، يفتح الباب للأمل في أن تأتي القمة مختلفةً على الأقل من منظور نسبة حضور القادة فيها، وهي النسبة التي تدنت كثيراً في السنوات الأخيرة لاعتبارات سياسية وغير سياسية. ولا ننسى أن قمة عمان عام 1987 كانت قمة فارقة في عبور الانقسام المصري العربي بعد أن سببت تطورات الحرب العراقية الإيرانية بعد اختراق الفاو في عام 1986 هواجس مشروعة بخصوص حماية الأمن القومي العربي، ما تطلب التأكيد على وحدة الصف العربي في مواجهة ذلك التهديد.

غير أن قمة البحر الميت تنعقد في ظل ظروف بالغة الصعوبة، فالوضع العربي مثقل بتحديات ومخاطر عربية وإقليمية وعالمية لا حدود لها، فعلى الصعيد العربي، يأتي على رأس هذه الصعوبات تهديد كيان الدولة الوطنية العربية في العديد من البلدان العربية، حيث انكفأت هذه البلدان على ذاتها دفاعاً عن وحدتها وتماسكها، بينما شاعت للأسف في بعض الأوساط العربية نبرة تشاؤمية ترى أن أوان مواجهة الخطر على الدولة الوطنية العربية قد انقضى، وأن علينا أن نستعد لواقع جديد يشهد امتداد التفكك الذي شهده الصومال في العقد الأخير من القرن الماضي، والسودان في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، إلى مزيد من الدول العربية، وهي نبرة استسلامية يتعين على قمة البحر الميت مواجهتها.

هذا، ناهيك عن الدبلوماسية المشوشة، ومن ثم المربكة للرئاسة الأميركية الجديدة، سواء فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية أو بمستقبل المنطقة، فعلى الصعيد الفلسطيني خرجت من الرئيس الأميركي تلك الإشارات المتناقضة عن حل الدولة والدولتين، وعن صفقة إقليمية كبرى يُخشى أن تكون محاولة جديدة لقلب المبادرة العربية على رأسها، بحيث يطلب من الدول العربية تنفيذ التزاماتها بموجب هذه المبادرة قبل قيام إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها وفقاً للمبادرة نفسها، بما يضع الحقوق العربية والفلسطينية رهينة بيد إسرائيل، أو أن تتضمن هذه الصفقة أفكاراً عن تحالفات مشبوهة تفاقم من الانقسامات العربية، وتحوّل وجهة التحالفات العربية إلى اتجاه غير صحيح.

وهذا دون أن ننسى ضرورة مواجهة القمة لدعاوى نتنياهو بأن تبعية الجولان لإسرائيل لم تعد موضع نقاش، أوتلك الأفكار التي يُرَوج لها على نحو مريب بخصوص دولة في غزة لا بأس في نظره من أن تقتطع جزءاً من سيناء المصرية وتصبح «سنغافورة» الشرق الأوسط!

يتمنى المرء بطبيعة الحال على الرغم من جسامة التحديات السابقة، ومن فقدان الأمل لدى قطاعات من الرأي العام العربي، وكذلك من النخب العربية في مؤسسة القمة العربية، أن تخرج قمة البحر الميت بقرارات ترتفع إلى مستوى التحديات السابقة، خاصة وقد ثبت بما لا يدع مجالاً لأدنى شك إفلاس المناهج الحالية في إدارة الصراعات الراهنة في الوطن العربي وعقم النهج المتبع في إدارة الصراع مع إسرائيل. وقد صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية، أن رئيس السلطة الفلسطينية، ينوي طرح مبادرة جديدة، نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون مضمونها متسقاً مع المصالح الفلسطينية والعربية، وقابلاً لتحقيق توافق عربي حوله.

كذلك يأمل الجميع أن تتبنى القمة موقفاً قاطعاً من عمليات التدخل الخارجي في الشأن العربي بكل صوره وأشكاله، ودون تفرقة أو تمييز، وهو ما يتطلب توافقاً عربياً عالياً.

والأهم من اتخاذ القرارات، أن تعبر القمة الجسر بين القول والفعل، بمعنى أن تكون آليات تنفيذ القرارات ومتابعتها جزءاً لا يتجزأ من عملية إصدارها، حتى لا تذهب القرارات الجديدة كغيرها إلى ساحة العجز أو غياهب النسيان. وبالإضافة إلى هذه التمنيات البديهية، فإن البعض بات يحلم بتغيير في نهج القمة ذاتها، وهذه مسألة أتمنى أن تُطرح على القمة حتى ولو لم تتم مناقشتها، بحيث يُتفق على أن تناقش في القمة التالية ويُحسَن الإعداد لها.

ويثير الحالمون بتغيير في نهج القمة، مسائل عدة، أتخير منها اثنتين، أولاهما مدة انعقادها، والثانية جدول أعمالها، وتتعلق المسألة الأولى بما لوحظ على القمم العربية الأخير من تقلص مدة انعقادها بما يصل بهذه المدة أحياناً ليوم واحد بعد أن كانت تمتد لأيام عديدة في السابق. وقد استضاف المغرب قمة 1965 لمدة أسبوع، وامتدت قمة الخرطوم 1967 لخمسة أيام، وفي قمة اليوم الواحد أو اليومين يتقلص دور الزعماء تقريباً إلى إلقاء الكلمات الافتتاحية التي تعبر عن مواقفهم من القضايا المختلفة، وعلى أحسن الفروض إبداء الرأي في القضايا الخلافية التي يرفعها وزراء الخارجية إليهم. صحيح أن هذا الوضع يتسق وخصائص دبلوماسية القمة التي لا يمكن أن يتوافر الوقت للقيادات المشاركة فيها لكي تبحث في تفاصيل كثيرة يمكن للمستويات الأدنى الفصل فيها، إلا أننا بصفة عامة، وفي ظل الأوضاع العربية الراهنة بصفة خاصة، لا شك بحاجة إلى نقاش أوسع بين الزعماء العرب، من المؤكد أنه سوف يفتح الباب لطرح أفكار جديدة ومبادرات مطلوبة لتجاوز هذه الأوضاع. وقد يكون الحوار الأطول زمناً بين القادة العرب في حد ذاته عاملاً من عوامل كشف ما هو خافٍ في المشكلات العربية، وطرح ما يمكن أن يمثل نهجاً جديداً في حلها. أما المسألة الثانية، فترتبط بما لوحظ من نهج شامل في طرح القضايا على القمة، بحيث تتناول كل شيء، بدءاً بمحو الأمية في الوطن العربي، على سبيل المثال، وانتهاءً بأكثر المسائل حساسية وتعقيداً، وليكن الصراعات العربية الراهنة.

صحيح أن المسؤولين عن العمل العربي المشترك في مجالاته كافة يتطلعون دوماً إلى طرح استراتيجياتهم وخططهم على مؤسسة القمة العربية كي تكتسب الجدارة والأهمية المطلوبتين، لكن البعض يرى من ناحية أخرى، أنه بالإضافة إلى أن هذا النوع من القرارات، يمكن أن تُتخذ قراراته على المستوى الوزاري، ولا بأس من أن تدعمه القمم العربية لاحقاً.

ولعله قد آن الأوان لأن تكون القمة العربية هي قمة الموضوع الواحد الذي يمثل خطراً جسيماً على الأمة، كما في الصراعات العربية الراهنة، أو الموضوع الذي تُعقد عليه الآمال في تحقيق قفزة تكاملية نوعية في العمل العربي المشترك. فإذا استمر الإصرار على النهج الشامل لكل شيء في العمل العربي المشترك، لماذا لا تُطرح فكرة عقد قمم خاصة في غير أوقات انعقاد القمم الدورية لمناقشة تلك الموضوعات بالغة الأهمية، والتوصل فيها إلى القرارات المطلوبة.

وأخيراً، ورغم كل الصعوبات والمعوقات، يبقى الأمل دائماً في مفاجآت سارة، صحيح أن متطلباتها الموضوعية لا تبدو متاحة، لكن فداحة الأوضاع الراهنة، تدفعنا دفعاً إلى هذا الأمل، وليت القادة الذين سوف تجمعهم قمة البحر الميت، يدركون أن اتخاذهم أي قرار جاد وفعال بصدد قضية عربية محورية أو وضع عربي خطير سوف، يكون له مردود إيجابي هائل في أوساط الرأي العام العربي، وسوف يكون هذا في حد ذاته خطوة بالغة الأهمية على طريق الخروج من النفق العربي المظلم الذي يرتهن الأمة العربية في وضعها الراهن.