أمير العمري 

 في أحد مشاهد فيلم "ربيع" للمخرج اللبناني من أصل أرمني فاتشي بولغورجيان يقول رجل ممن يلتقيهم بطل الفيلم الشاب الكفيف "ربيع" إنه باعتباره كفيفا يمكنه أن يرى ما لا يراه عادة المبصرون، فيجيبه ربيع في استنكار بقوله إنه لا يرى ولا يشعر بما يجعله يختلف عن الآخرين. إما أنه يقصد أن الجميع “عميان” مثله أو أنه مثلهم أي يشعر فقط بما يشعرون. وهو عموما يكذب الفكرة “الأدبية” الشائعة عن الأعمى الذي يكون أكثر بصيرة من الآخرين.

أن يكون ربيع كفيفا في الفيلم اختيار مقصود دون شك من جانب المخرج-المؤلف، ولم يأتِ اعتباطا، وما شعوره بالغضب إلا بسبب عجزه عن رؤية ما يدور حوله وإن كان سيبدأ في إدراكه تدريجيا خلال بحثه الشاق عن الحقيقة.

وربما يكون وجود ربيع في الظلام ومحاولته أن يستشف بإحساسه الداخلي حقيقة المشاعر الإنسانية لدى من يحيطون به هو ما جعل المخرج، بالتعاون مع مدير التصوير الأميركي جيمس لي فيلان، يلجأ كثيرا إلى التصوير باستخدام الإضاءة الخافتة التي تجعل الصورة معتمة وقاتمة، وهو طابع ملحوظ في الكثير من مشاهد الفيلم خاصة تلك التي ينفرد فيها ربيع بنفسه، يعزف على آلاته الموسيقية المفضلة أو يفكر ويتأمل في مأزقه “الوجودي” الحالي. ولكن ما هو مأزق ربيع؟

 جيل الحرب

ربيع الذي ولد عام 1988، أي قبل أن تضع الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها بعامين فقط، شاب كفيف يعيش مع والدته “سمر” التي قتل زوجها في الحرب، وهي تقيم مع شقيقها “هشام” الغامض الذي شارك في الحرب ومازال يفضل أن يحتفظ لنفسه بما رآه وخبره خلالها.

ربيع يعزف ويغنّي الأغاني العاطفية الشجية خاصة أغاني صباح فخري، وهو عضو في فرقة موسيقية لبنانية صغيرة. تتلقى الفرقة ذات يوم دعوة لتقديم أغانيها في أوروبا.

يسعى ربيع لاستخراج جواز سفر لكي يسافر مع الفرقة لكنه يفاجأ بمصادرة السلطات بطاقة هويته بعد أن اتضح لهم أنها "مزورة".

وفي قسم الشرطة يخبرونه بأنه يتعين عليه أن يأتي بشهادة ميلاده الأصلية التي يمكن بموجبها استخراج جواز سفر له، لكنّ الأم تنفي وجود هذه الشهادة بدعوى أنها احترقت مع أشياء أخرى خلال الحرب، ثم يفشل ربيع في العثور على أثر يشير إلى تسجيل ميلاده في سجلات المستشفى الذي قالت له أمه إنه ولد فيه. وينصحه مسؤول في المستشفى بإجراء تحليل دم لوالدته وله لإثبات نسبه إليها.

متاهة الأكاذيب

بعد أن يفشل ربيع في العثور على أيّ أثر لتاريخه الشخصي في هذه القرية الصغيرة من القرى اللبنانية حيث يفترض أن يكون قد ولد، تعترف له أمه بأنها ليست أمه وبأن شقيقها هشام هو الذي حمله إليها لكي تتبناه وتمنحه اسمه هذا.

منذ هذه اللحظة يبدأ ربيع رحلة بحث شاق في عدد من القرى اللبنانية في الشمال والجنوب للعثور على تاريخه المفقود واسترداد هويته الضائعة، وكلما التقى بشخص، سواء من أصدقاء وزملاء خاله هشام أو من أصبحوا خصوما له، وغيرهم، لا يحصل منهم إلا على قصص تدعوه إلى المزيد من البحث والتعقب ليجد نفسه في نهاية الأمر داخل متاهة من الأكاذيب.

 

من هو ربيع؟ وإلى من ينتمي حقا؟ وكيف جاء إلى هذه القرية؟ ومن أين جاء؟ وكيف مرت عليه 24 سنة وهو يعيش في كنف سمر التي تحبه كثيرا وتفتقده بجنون إن غاب عنها طويلا؟ وكيف له أن يتذكر شيئا عن طفولته الأولى ولا كيف فقد بصره أصلا؟ ومن هو أبوه؟ وأين هي قريته الأصلية؟ وهل هو لبناني أم ينتمي إلى بلد آخر؟ فدون أن تكون معه بطاقة هوية واضحة محددة لا يمكن أن يثبت ربيع وجوده كمواطن ينتمي إلى لبنان، بل وقد أصبح أيضا عرضة للقبض عليه إن لم يكن بسبب بطاقته المزورة التي صادرتها الشرطة فبسبب غياب أيّ دليل واضح على هويته منذ مولده.

فكرة جديدة

الفكرة جديدة ومثيرة دون شك، والفيلم يحتوي على الكثير من الإسقاطات السياسية الخفية عن خصوصية “الحالة اللبنانية”، فما نراه خلال جولة ربيع التي كثيرا ما تجعل الفيلم يقترب من أسلوب “أفلام الطريق”، يعتبر تلخيصا بليغا وموجزا للاضطراب الذي أصاب الجميع من جيل الحرب اللبنانية. ذلك العجز عن مواجهة الماضي، وضياع الهوية، وفقدان البوصلة والرغبة في التجاوز والنسيان دون تسديد الخانات الناقصة.

سائق التاكسي الطيب الذي يصاحب ربيع في جولاته إلى القرى اللبنانية المختلفة يعترف له بأنه عاجز عن العودة إلى المنزل الأصلي الكبير العريق منزل العائلة التي ينتمي إليها الموجود في قرية أخرى، وقد خلا منذ سنوات تماما من البشر بعد أن مات من كانوا يسكنونه أو هجروه، وهو لا يفتأ يردد مقولة تقول "ما فائدة الحجر من دون البشر".

الأم سمر تبدو مصرّة على ضرورة تجاهل الماضي والقبول بما هو قائم الآن في الحاضر، فماذا يحتاج ربيع أكثر مما تحوطه به من حبّ وحنان لا يختلف في شيء عن حنان الأم الأصلية.

ولكن ربيع يريد هويته كما يريد الحصول على جواز سفر، وتعده سمر بأن هشام سيدبر له كل أوراقه كما كان يفعل دائما. لكن هشام نفسه يختفي في لحظة ما خلال الفيلم ويظل مختفيا لفترة طويلة دون مبرر واضح.

ويشي ماضي هشام بأنه كان عنيفا فقد شارك كضابط في الحرب الأهلية ولا بد أن يكون قد قتل الكثيرين في خضم ذلك الصراع الدامي كما يقول له ربيع، ثم انقطعت صلته بزملائه القدامى كما انفصل منذ زمن طويل عن خطيبته "مي" شقيقة أحد أصدقائه القدامى الذين لم يعودوا أصدقاء.

 ربيع يبحث عن مي ويصل إليها ويعرف منها "أنّهم" – دون أن يعرف ما تعنيه بهذه الكلمة- أودعوا شقيقها مصحة للمرضى المضطربين نفسيا، وعندما يزوره ربيع في المصحة لكي يعرف منه الحقيقة، أي كيف عثر عليه هشام؟ وهل كان هو معه وقتذاك؟ يجده عاقلا تماما مدركا لمصيره، لكنه يبدو وقد قنع بالعيش في عزلته داخل هذه المصحة في تلك المنطقة الجبلية النائية، ولا يمكنه التصريح بأشياء كثيرة عن الماضي.

الرمز والواقع

فيلم "ربيع" عمل بسيط، مصنوع بإمكانيات محدودة، فيه من الرمز السياسي دون إفراط أو إقحام بقدر ما فيه من التأمل في مصير الفرد والعوامل المختلفة المتضاربة التي يمكن أن تصنع هويته أو تشطب عليها.

الحرب الأهلية قائمة في نفوس وخلفيات كل الشخصيات تقريبا، أما ربيع نفسه فليس سوى نتاج لهذه الحرب، نتاج مشوه لها، فاقد البصر وفاقد الهوية. وبحثه عن هويته مرادف لبحث لبنان نفسه عن هويته التي ليس بوسعه استعادتها إلا إذا تمكن من مواجهة ماضيه بشجاعة وتحقيق المصالحة مع نفسه.

يمزج الفيلم بين الغناء، الذي يعكس رغبة ربيع في الشعور بالتحقق، وبين بحثه عن "جواز السفر"، فالغناء هو النشاط الوحيد الذي يحقق من خلاله ذاته ويعثر على هويته، وجواز السفر هو الذي سيسمح له بالخروج من القوقعة التي يعيش فيها إلى العالم.

يعتمد أسلوب المخرج بولغورجيان على التعبير بالصورة، بالحركة، بالإضاءة، باستدعاء الماضي ولكن دون إحالات بصرية مباشرة، بل من خلال الإشارات الخافتة والرموز والتركيز على الوجوه الحزينة وحركة الأجساد المرهقة.

إنه يخفي بين طيات الصور أكثر مما يعلن. وهو يجيد استخدام الفضاء المفتوح في مشاهد الريف اللبناني التي تعتبر من أفضل مشاهد الفيلم بتكويناتها البصرية ومساحات الصمت فيها وتنوع لقطاتها في الأحجام وإيقاعها الهادئ البليغ.

صحيح أن في الفيلم مناطق ضعيفة هشة وبعض الاستطرادات أيضا، لكن يتعين الاعتراف بما يتمتع به المخرج من حساسية وبلاغة وهو يخرج أول أفلامه الروائية الطويلة بكل هذه القدرة على التأثير في المشاهد دون ابتزاز للمشاعر ودون السقوط في حبائل الميلودراما.

 التمثيل والأداء

مستوى التمثيل في الفيلم شديد التميز خاصة أداء الممثلة المخضرمة جوليا قصار في دور الأم “سمر” بثقتها الراسخة وتعبيرها الرصين عن المشاعر المتضاربة، فهي تريد أن يحقق ربيع ما يصبو إليه لكي يرتاح، ولكنها أيضا لا تريد أن تفقده.

وربما يكون من أفضل مشاهد الفيلم تجسيدا للعلاقة بينهما المشهد الذي نرى فيه ربيع وهو يعود إلى البيت بعد رحلة مرهقة بحثا عن الذات الغائبة، يتسلل إلى فراشها يتمدد بجوارها في ظلام الغرفة، ثم يستدير ويحتضنها. إنها في النهاية أمّه التي لا يعرف سواها.

أما بركات جبور الذي قام بدور "ربيع" فلا شك أن إصرار المخرج على إسناد الدور له يرجع أولا لكونه كفيفا حقيقيا منذ مولده، وقد يكون بالتالي أفضل من يعبّر عن الكفيف بشكل طبيعي، وثانيا أنه يجيد الغناء بصوته القوي المعبر.

وقد اقتضى الأمر تدريبا طويلا له حتى استطاع أن يقف أمام الكاميرا، لكن رغم ذلك، من الواضح أنه لم يستطع التلوين في أدائه والانتقال من خلال تعبيرات وجهه مع التطور الدرامي في الفيلم، فظلت نبرة صوته أحادية جافة وحادة، وظلت تعبيرات وجهه جامدة، وكانت طريقته في النطق -منذ البداية- خشنة جافة عالية النبرة، تتصف بالحدة دون مبرر، حتى قبل أن تتجسد مشكلته.

وقد يكون ذلك راجعا إلى شعور بركات بالارتباك خاصة وأنه لم يكن يستطيع أن يرى الممثلين الذين يؤدون الأدوار الأخرى أمامه، كما لم تكن اللقطات القريبة لوجهه (كلوز أب) بصورة خاصة، موفّقة.

ولعل هذه الجوانب تؤكد أن أداء الكفيف الحقيقي ليس دائما أفضل من أداء الممثل المحترف. وفي السينما العالمية نماذج كثيرة تؤكد صحة هذه الفرضية، ولكن التجربة تستحق دائما المجازفة فهي جزء من مغامرة الفن!