فـــؤاد مطـــر

حفلت العقود الثلاثة التي عشناها في لندن، على سبيل المثال لا الحصر، بعشرات المؤتمرات والمسيرات الاحتجاجية، نظَّمتْها أطياف حركات ومنظمات عربية وإسلامية، وكانت تواكبها حراسة أمنية، ذلك أن سقف المناخ الديمقراطي في الدول الأوروبية يتيح المجال لذلك.

هذا إلى جانب التسهيلات التي تجعل هذا المؤتمر أو ذاك ناجحاً بامتياز. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نلحظ في المشهد الذي نشير إليه مؤتمر المعارضة العراقية الذي سبق إسقاط النظام البعثي الصدَّامي، وكيف أن رموز المعارضة تلك، بنوعيْهم السياسي والديني، وجدوا عند التئام شملهم في مؤتمر عُقِد في لندن (14 - 15 ديسمبر/ كانون الأول 2002) رعاية معنوية وسياسية من بريطانيا زادت من عزيمتهم، ثم انتقلوا إلى بغداد على جناح تلك الرعاية موعودين بما يُبقي العزيمة قوية. كما لنا في المؤتمرات التي تعقدها حركة «مجاهدين خَلْق»، في أكثر من عاصمة أوروبية، محفوفة بالرعاية المعنوية والأمنية، ما يعزز ملاحظة أن سقف المناخ الديمقراطي يحمي حراك المعارضين. أما حراك الموالين لحكومات وحكام دول أتوا منها إلى الديار الأوروبية، فهذا غير مرحَّب به.
من أجل ذلك كان المنع من جانب السلطات في هولندا لحراك أراد أتراك يقيمون في بعض مدنها (عددهم الإجمالي نحو نصف مليون، أي 2 في المائة من عدد السكان) القيام به تأييداً للرئيس إردوغان، والتصويت ـ«نعم» في الاستفتاء الذي أراده اختباراً لزعامته المطلقة بعد المحاولة الانقلابية التي نجا منها. وبدل أن يتفهم إردوغان خصوصية المملكة الهولندية، وتقاليدها ومفاهيمها بالنسبة للممارسة الديمقراطية، فإنه شنَّ حملة كلامية عليها، زادها اشتعالاً تعامُل غير لائق من جانب السلطات الهولندية مع وزيرة تركية كانت ستُمثِّل الحكومة التركية في ذلك الحراك. ولقد لوَّح إردوغان بفتح الحدود أمام جموع اللاجئين إلى أوروبا التي بدأت تضيق ذرعاً بظاهرتهم، وقال من الكلمات في حق هولندا، ثم في دول أخرى من الاتحاد الأوروبي، الذي ما زال موصداً أبوابه أمام انضمام تركيا، ما أثار حفيظة الأوروبيين الذين اتخذوا وقفات سياسية إلى جانب هولندا، رافضين عبارات إردوغان الكثيرة الحدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قوله في شأن عدم قبول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: «إن الاتحاد الأوروبي ودوله وقادته لا يعرفون الديمقراطية، إنهم تجمُّع مسيحي، ولذلك ذهب قادته على اختلاف مذاهبهم إلى بابا الفاتيكان، وهذا هو سبب رفْضهم لانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد»، وتوصيفه أوروبا، الرافضة انضمام تركيا إليها، بأنها «الرجل المريض»، و«إنهم منزعجون منا لأن معدل النمو في تركيا تجاوز 25 في المائة، بينما معدل النمو في أوروبا لا يزيد على 1.5 في المائة».
كان هذا التخاطب الحاد قبل يوم الاستفتاء، لكن ذلك تواصل بعد إعلان الفوز بنسبة بدت فيها تركيا منقسمة اثنتيْن، وبفارق بسيط (51.4 في المائة لمصلحة إردوغان)، الأمر الذي حمل قادة وكتَّاباً ومعلِّقين أوروبيين، من بينهم صحيفة نمساوية أثار انتقادها له حفيظته، فاحتجت الحكومة التركية عبْر الوسائل الدبلوماسية على إطلاق علامات استفهام بشأن المستقبل التركي، ليرد عليهم الإردوغانيون المبتهجون بتهنئة الكبيريْن (ترمب ثم بوتين) بالقول في لحظة ابتهاج بالنصر: «التزموا حدودكم. لقد عبَّرت الأمة عن إرادتها بِحُرية؛ هذه المسألة انتهت، وعلى العالم أن يحترم النتيجة».
بعد الآن، ستعيش تركيا، ذات الثمانين مليون نسمة، من بينهم خمسة آلاف يعيشون في إسرائيل، وثلاثة آلاف في العراق، حالة اختبار حقيقية لمسألتيْن عالقتيْن: العلمانية غير المستقرة، ومدى استتباب أمر انسجامها مع الإسلام السياسي، والديمقراطية من خلال التشارك، وعدم تهميش الأطياف التي قالت بالصوت الأعلى: لا للتعديلات الدستورية التي ستعطي إردوغان رسمياً بعد اعتمادها سلطات لا رقابة للمؤسسات، وبالذات البرلمان، عليها. فهو بموجب هذه التعديلات، سيكون رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، وهي حالة مألوفة في بعض دول العالم الثالث.
وعندما ينحصر هذان المنصبان في شخص واحد، وهو في الوقت نفسه زعيم حزب «العدالة والتنمية»، فإن الخشية واردة من المبالغة في استعمال السلطتيْن، سلطة الرئاسة والسلطة التنفيذية (بما يتفرع عنها من مؤسسات مدنية وعسكرية) وسلطة رئيس الحزب. وهذا حصل، على سبيل المثال، في العراق مع الرئيس صدَّام حسين، بعد تنازُل أحمد حسن البكر عن صلاحيته كرئيس للدولة.
ويبقى، ونحن في هذه الإضاءة على التجربة الإردوغانية، يستوقفنا أمر لافت يتعلق بأحد مضامين التعديلات، وهو أن ولاية الرئيس 5 سنوات، ويحق له البقاء دورتيْن، بما معناه أن إردوغان باق في سدة الحُكْم إلى عام 2029، وهذا يتيح له تحقيق انبعاث ظاهرة السلطنة، التي إذا كان لا يجاهر بها في خُطبه وإطلالاته واردة في خاطره.
وهو عندما استبق يوم الاستفتاء بأسبوع بالرد على بعض القادة الأوروبيين، المتحفظين على استفتائه والتعديلات الدستورية، التي يؤكد في إحداها عزْمه على إعادة تطبيق عقوبة الإعدام، وإنهاء طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بتوصيف القارة العجوز (أي أوروبا) بأنها «الرجل المريض»، فإنه بدا كمَن يقول إن زمن «تركيا الرجل المريض» ولَّى، أو إنه سيولِّي في عهد إردوغان بطبعة التعديلات الدستورية، وإن الصفة في ضوء ذلك تصبح على حد تعبيره «أوروبا الرجل المريض. إنها تتهاوى واقتصادها يتراجع، عاماً بعد آخر، وإن شعبنا سيحاسب الأوروبيين، وإن الأتراك الذين يعيشون في أوروبا مضطَهدون ومُهانون».
وتبقى مسألة تحمل في طياتها أموراً ليست في الحسبان، ذلك أن المفاجآت في عالم السياسة والحُكْم واردة باستمرار، ولا ترحم. فالذي صاغه إردوغان لنفسه قد يرثه الطيف المعارض، في حال أصاب العهد الإردوغاني الوهن المفاجئ.
سيبقى صوت الاعتراض عالياً، وسيبقى الرئيس إردوغان يقول للمعترضين وللاتحاد الأوروبي الذي طالب بـ«فتْح تحقيق شفاف في التجاوزات المفترَضة»: لقد قضي الأمر. لكن رغم ذلك، ستبقى علامة الاستفهام مجاورة لعلامة التعجب، في شأن الاستفتاء الذي يجريه حاكم في العالم الثالث وهو يمسك بمقاليد السلطة، ويكون هنالك مَن يفترض أن النتيجة ليست مؤكدة، ولمصلحة صاحب الاستفتاء الذي هو هنا الرئيس رجب طيِّب إردوغان. على مدى نصف قرن، واكبْنا استفتاءات أجرتْها الحكومات لمصلحة حكام، وجاءت النتائج بما يرضي الحاكم. الفرق الوحيد هو أن الاستفتاء التركي كان على درجة من المصداقية، بدليل نتائجه، حيث أثبتت الأرقام أن البلد (تركيا) منقسم على نفسه. أما الاستفتاءات الناصرية والساداتية والبشَّارية، بين مطلع الستينات وعلى مدى عقود، فإن النتائج كانت تسبق عملية الاستفتاء، وكان الناس يتقبلونها على مضض، فيما أتراك استفتاء يوم الأحد 16 أبريل (نيسان) 2017 نقيض ذلك، وقد رسموا في المشهد السياسي الإقليمي والدولي معادلة جديدة، وهي أن تركيا (ذات اـ80.274.604 نسمة، و783.562 كم² مساحة)، بوابة الشرق الأوسط ودول الخليج إلى القارة الأوروبية، ونافذة القارة على تلك الدول، لم تعد بالهوية التي كانت عليها، وربما سيجد الأوروبيون في انتسابها إلى اتحادهم خير تعويض عن انصراف بريطانيا عنهم، بموجب استفتاء كبير الشبه من حيث النسبة المئوية بالاستفتاء التركي (51.89 في المائة مغادرة، و48.11 بقاء في الاتحاد)، وأنهم لم يستطيعوا نقْضه.. .