وحيد عبد المجيد

أضاعت روسيا ثلاث فرص ثمينة توافرت لها خلال أربعة أشهر فقط، لتحقيق اختراق في الأزمة السورية، يؤهلها لاكتساب ثقة إقليمية ودولية تشتد حاجتها إليها.

كان الحسم العسكري في حلب في ديسمبر الماضي، فرصة أولى، بدا أن موسكو تدرك أهميتها، وتستطيع استثمارها لتحقيق تحول جوهري في دورها من طرف مباشر في الصراع المسلح إلى راعٍ لعملية تؤدي إلى تسوية تاريخية بقيادتها.

تصور كثيرون أن روسيا شرعت في اقتناص الفرصة عندما اتجهت إلى وقف العمليات العسكرية، على رغم سعي نظام الأسد وإيران والميليشيات التابعة لها إلى مواصلتها في مناطق أخرى. قررت موسكو التفاوض للمرة الأولى مع فصائل مسلحة، كانت تعتبر بعضها إرهابية تمهيداً لفتح مسار جديد في جهود الحل السلمي. ودعت إلى مؤتمر في أستانة، صار الأول في سلسلة تشمل ثلاثة مؤتمرات حتى الآن. ولكنها فشلت في تحقيق أي اختراق باتجاه تسوية الأزمة، لا لشيء إلا لإخفاقها في التحول من طرف إلى وسيط، وعدم استعدادها لتطوير استراتيجية تضمن مصالحها في سوريا القادمة، من خلال علاقة متوازنة مع مختلف الأطراف، بدلاً من وضع هذه المصالح كلها في سلة نظام الأسد وحلفائه المذهبيين.

كانت هذه فرصة لا تُعوَّض في لحظة انشغال واشنطن بترتيبات الانتقال من إدارة إلى أخرى، وفي غياب سياسة أميركية محددة المعالم بعد سنوات من الانكفاء الذي اختارته إدارة أوباما. ولكنها ضاعت لأن موسكو لم تدرك استحالة أن تكون وسيطاً فاعلاً وطرفاً منحازاً في آن معاً.

وجاءت فرصة ثانية إثر الهجوم بالغاز الكيماوي في خان شيخون في 4 أبريل الجاري. كان في إمكان موسكو اتخاذ موقف أكثر اقتراباً من قواعد القانون الدولي لتحقيق هدفين يفتحان الباب الموصد أمام اختراق، تلعب دوراً رئيساً فيه بالتعاون مع واشنطن، بعد أن بددت فرصة الانفراد بهذا الدور عقب معركة حلب. أما الهدف الأول، فهو ممارسة ضغط تحتاج إليه هي قبل غيرها على نظام الأسد وحلفائه المذهبيين لتليين موقفه المتصلب تجاه أي تحرك لتسوية الأزمة، بعد أن أصبح موقف معظم الفصائل المسلحة أكثر مرونة بفعل الخسائر التي مُنيت بها منذ التدخل العسكري الروسي. وأما الهدف الثاني، فهو فتح باب ما زالت ترجوه للتعاون مع واشنطن، بعد أن أتت رياح إدارة ترامب بما لم تتوقعه. وكان ممكناً في حالة اتخاذها موقفاً أكثر جدية ضد استخدام الغاز في الحرب السورية، أن تكتسب مصداقية لكونها الضامن الرئيس لنزع أسلحة نظام الأسد الكيماوية بموجب تفاهم مع واشنطن، إثر هجوم على الغوطة الشرقية في أغسطس 2013.

غير أن اختيار موسكو موقف الدفاع الكامل عن نظام الأسد، والنفي المطلق حتى لاحتمال استخدامه الغاز مرة أخرى، واللجوء إلى رواية يصعب تسويقها، دفع الرئيس ترامب إلى شن الهجوم الصاروخي الأميركي في 7 أبريل على مطار الشعيرات الذي انطلق منه الهجوم الكيماوي. وجاء استخدامها «الفيتو» في مجلس الأمن ليعصف بالفرصة، على الرغم من أن مشروع القرار الذي عرقلته لم يتضمن إدانة لنظام الأسد، بل نص على إجراء تحقيق وفق قواعد صارمة تُلزمه بالتعاون وفتح قواعده الجوية أمام لجنة التحقيق، والسماح لها بمقابلة الضباط السوريين الذين قاموا بطلعات جوية خلال اليوم الذي حدث فيه الهجوم بالغاز.

ولم تكد تلك الفرصة تضيع حتى لاحت أخرى ثالثة خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى موسكو في 12 أبريل الجاري. فقد حمل مبادرة كان ممكناً أن تضع الأساس لنظام عالمي جديد، وليس لتحقيق تسوية في سوريا فقط. وفحوى هذه المبادرة أن تتخلى روسيا عن تحالفها مع إيران ونظام الأسد، في مقابل بناء علاقات تعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة على نطاق واسع لا يقتصر على مكافحة الإرهاب.

أضاعت موسكو هذه الفرصة أيضاً عندما عجز صانعو القرار فيها عن توسيع مجال رؤيتهم الضيقة التي ترهن مستقبل دور دولة كبرى يمكن أن يكون لها شأن أعظم في النظام العالمي، بنظام محكوم عليه بالتغيير مهما طال الوقت، وبدولة «إيران» يزداد إدراك العالم أنها الأكثر رعاية للإرهاب.

ومع ذلك، ما زال في إمكان روسيا أن تراجع سياستها لكي تتمكن من خلق فرصة جديدة لتعظيم دورها العالمي بالتعاون مع الولايات المتحدة، أو استثمار فرصة رابعة قد تلوح في الفترة القادمة، قبل أن يصبح التدهور في العلاقة بين الدولتين غير قابل للمعالجة.