عبدالحميد الأنصاري

تتعاظم شعبية الأحزاب اليمينية الشعبوية في الغرب، ويتصاعد نجمها يومًا بعد يوم، وما يجمعها هو خطاب الخوف على الهوية ومعاداة الآخر، وتحميله مسؤولية المشاكل الاقتصادية والأمنية، ويتبنى الخطباء الشعبويون، عادة، وكما هي حال الخطباء عندنا، خطابًا تحريضيًا واحدًا، استثارة الغرائز الأولية للجماهير ضد الآخر،

ومن هنا تتصاعد صيحات الشعبويين في مظاهرات صاخبة تحمل يافطات عنصرية: فرنسا للفرنسيين، ألمانيا للألمان... الخ الخطباء الشعبويون، ديماغوجيون، مهيجون، مضللون، لكنهم يحسنون التلاعب بالمشاعر الوطنية والقومية، وإثارة مخاوف المواطنين على الهوية والثقافة والدين والوطن، وإيهام الجماهير بأن لديهم الحلول الناجعة للمشكلات الاقتصادية والأمنية. الخطاب الشعبوي، خطاب لا عقلاني، تعبوي، دعائي، محرض على الكراهية، هدفه إثارة مشاعر الجماهير وشحنها بعدائية الآخر الحضاري أو الديني أو المذهبي أو القومي، الزعيم الشعبوي لا يقود، بل يقاد من قبل الجماهير التي يظن قيادتها، يركب الموجة الجماهيرية ويتملقها صوابا أو خطأ، ولو على حساب مصالحها الحقيقية، الهدف الأسمى للقائد الشعبوي، الوصول إلى السلطة، ولو داس كل القيم والأعراف، يتبنى الشعبوي خطابًا معاديًا للبناء السياسي والاجتماعي القائم وللنخب السياسية والثقافية، ويؤمن بالفكر التآمري، ويغذي به الجماهير.

ظهرت الشعبوية في ثلاثينيات القرن الماضي، وأنتجت الفاشية والنازية في أوروبا، والحكام الديكتاتوريين في أمريكا الجنوبية، وامتدت إلى العالم العربي لتنتج زعماء شعبويين متسلطين، تبنوا سياسات شعبوية، جلبت كوارث على بلدانها، ولازالت تعاني منها، لكن أوروبا وعت الدرس، ومنذ نهاية الحرب الثانية استطاعت الأحزاب الليبرالية، المزاوجة بين الديمقراطية والاشتراكية، ونجحت في تحجيم التيار الشعبوي وتهميشه على امتداد 7 عقود، لتعود الشعبوية وتنتعش من جديد، وتمتد موجاتها لتكتسح أوروبا والولايات المتحدة، وإذ استثنينا هولندا التي نجت من قبضة الشعبوية بأعجوبة، وألمانيا، القلعة الأخيرة، فإن فرنسا تشهد اليوم صراعًا رئاسيًا ساخنًا، والاستطلاعات ترجح اقتراب اليمين الشعبوي من الرئاسة، وانحسار ظاهرة الأحزاب التاريخية: وبخاصة الاشتراكية عن الساحة السياسية.

الشعبوية، أكبر معاول هدم الديمقراطية، وأعظمها خطرًا على مستقبلها، ويبدو أن الشعبوية إحدى العوارض الملازمة للديمقراطية، ولن تستطيع التخلص منها، وقديمًا في أثينا، نعى فلاسفة اليونان، أفلاطون وأرسطو، على ديمقراطية أثينا، أنها قررت الحرية للجميع، وأنها ساوت الصالحين بغير الصالحين، على حساب الكفاءة والقانون، لأن الغالبية الشعبية هي الحاكمة لا القانون، ولكن ماذا عن النظرة التراثية للشعبوية في الفكرالسياسي الإسلامي؟

كان العلماء وأهل الفكر والثقافة قديما، ينظرون إلى عامة الناس، نظرة سلبية، ويصفونهم بالرعاع، والغوغاء، والدهماء، لاحق لهم في المشاركة في أي شأن عام، ولا مدخل لهم في الشورى، لأن الشورى، بحسب رأيهم، للنخبة والصفوة، أهل الحل والعقد والمعرفة والخبرة والرشد والحكمة، أما رجل الشارع، الإنسان العادي، فغير أهل للمشاركة في شؤون الحكم والسياسة، بناء على أن القرآن الكريم ذم الغالبية الشعبوية، ووصفها بالجهل والضلال، كونها تستثار بسهولة، وتتلاعب بها الأهواء، فتنقاد لمن يتلاعب بعواطفها، ولو على حساب الحق والحقيقة والمصالح العامة، فيحذر القرآن الكريم الرسول عليه الصلاة والسلام من اتباع أهواء الناس فيقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وفي آيات أخرى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثرهم يجهلون، فالإسلام نهى عن الغوغائية، وكان كبار العلماء يسمون العامة الشعبوية، بالجهلاء والجراد المخرب، قال ابن عباس عنهم: ما اجتمعوا إلا ضروا، وعلى ذلك، فالشورى في الإسلام، لا تبالي بأصوات الغوغاء في المجال السياسي، ولا تعمل لهم حسابًا، وإنما تبحث عن الرشد والصواب والحكمة عند أهل الذكر والمعرفة والخبرة، وتنهى عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون.

أخيرا: نحن اليوم في عصر الشعبوي الصاعد، رجل الشارع البسيط والذي كان مهمشًا، هملا في الماضي، لا رأي له في أي شأن عام، ونجد من الكتاب والمثقفين، اهتمامًا متزايدًا بظاهرة صعود الشعبي وسقوط النخبوي، أوالمثقف، كما في كتابات الناقد والمفكر السعودي الدكتور عبدالله الغذامي، والمفكر اللبناني الدكتور علي حرب.