حسن موسى الشفيعي

فتح استقبال جلالة الملك وسمو ولي العهد لممثلي مجلسي إدارة الكنيسة البروتستانتية بأمريكا، ومستشفى الإرسالية الأمريكية في البحرين (19/‏4/‏2017)، وكذلك تصريحاتهما بشأن الحرية الدينية وحرية العبادة في المملكة.. فتح شهيتي للكتابة، عن مدى أهمية الحفاظ على التنوع الديني والاجتماعي والثقافي، وعن مدى التشويش الذي أصاب الأجيال الجديدة، وهي تشهد حروب الهوية: الطائفة والمذهب والدين والعنصر، في أكثر من مكان في عالمنا العربي.

120 عاماً هو عمر مستشفى الإرسالية الأمريكية في البحرين، وكل ما خرجنا به منه، هو أن المستشفى قدم العلاج لعشرات الألوف من المرضى في البحرين ومنطقتي الأحساء والقطيف، من المصابين بالتراخوما، او بالفتاق، وغيرهما، كما انقذ نساءً كثر كنّ يقضين نحبهن في حالات الولادة المتعسّرة، وأيضاً أنقذ حياة الأطفال وما أكثرهم. كل ذلك كان، في وقت لم تتشكل فيه الدولة الحديثة بعد، ولم تكن هناك خدمات صحية توفرها لرعاياها.

هذا الإنجاز أشار اليه جلالة الملك في لقائه المذكور أعلاه، حيث أثنى على الجهود الطيبة التي لازال يبذلها القائمون على مستشفى الإرسالية الامريكية لتقديم أفضل الخدمات الطبية والعلاجية للمواطنين والمقيمين، ومن دول المنطقة منذ بدايات القرن الماضي، وبالسمعة الطيبة التي يحظى بها، ونوه جلالته بالإنجازات الطبية التي حققها مستشفى الإرسالية وإسهاماته في مجال تعزيز الرعاية الصحية والعلاجية في مملكة البحرين والمنطقة والتي امتدت لقرابة 120 عاماً.

الخائفون من تحوّل الناس الى المسيحية، أثبت عمر المستشفى أنهم كانوا مخطئين، فالتحول الديني لم يكن سهلاً لا في الأمس ولا في الوقت الحاضر، وفي العموم (لا إكراه في الدين) ولا يستطيع أحد ان يجبر الناس على أي معتقد. وهنا، أدعو الباحثين الى دراسة تجربة الإرسالية الأمريكية في البحرين، وربما في الكويت أيضاً، ودورها المجتمعي في إطار قدرة المجتمعات المحافظة على قبول التنوع الديني ووجود قدر كبير من التسامح الديني.

وبرأيي، فإن المجتمع البحريني بالذات، هو أكثر تسامحاً وقبولاً بالتنوع الديني والمذهبي، من أي مجتمع خليجي آخر. وهذا أمرٌ متجذّر قبل تأسيس القس زويمر للإرسالية في البحرين، أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وأنا متيقّن اليوم، بأن مجتمعنا الآن، لازال يتصدّر شعوب الخليج في تسامحه الديني، وقبوله التنوع هذا وغيره كحقيقة تاريخية ثابتة.

هذه الميزة في الشعب البحريني أشار اليها جلالة الملك حين قال بأن البحرين وعبر تاريخها العريق، تحتضن كل الديانات والمذاهب والثقافات... وأكد على ان ذلك ما كان ليحدث لولا وعي شعبها الذي يرحب بالجميع منذ القدم.

ومن هنا، فإن الحفاظ على التنوّع المجتمعي ـ خاصة الديني منه ـ من أولى اولويات عمل الدولة، وهذا لا يتم فقط بالقرارات الرسمية والحماية الرسمية للحرية الدينية وحرية العبادة، بل بالتربية المجتمعية أيضاً على نهج التعايش والتسالم الداخلي، والتسامح مع الأديان، وبتجريم خطابات التحريض والكراهية الدينية قانوناً.

لا غنى عن دور الدولة في تعزيز ثقافة التنوع، ونشر التسامح، وقد أعاد جلالة الملك التأكيد بأن البحرين ترعى وتكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية لمختلف الديانات والطوائف، وأنها ستبقى ـ بإذن الله ـ نموذجاً للتعايش والتسامح والمحبة بين الجميع. ذات الأمر أكده سمو ولي العهد حيث أشار الى حرص القيادة على تأصيل نهج التعايش والمحبة في المجتمع البحريني، والمحافظة على موقع البحرين الحضاري الذي تميزت به عبر تاريخها، من خلال احتضان كل الديانات والمذاهب وثقافة التنوع، مشيراً الى أن مبادئ التعددية والانفتاح والاحترام المتبادل، أصبحت من أهم عناصر قوة الهوية البحرينية الجامعة، ومؤكداً على وعي شعب البحرين التاريخي بأهمية التنوع، وأنه مكسب يدعم أسس الأمن والاستقرار.

السؤال: لماذا يخاف البعض من التنوع؟

هناك مَنْ يحمل فكرة خاطئة، أو فهماً دينياً خاطئاً، ويريد أن يقسر البشر على رأي واحد ومذهب واحد ودين واحد. وهناك من يخشى أن يؤدي التنوّع الى تبشير ديني على حساب الآخرين، وليس مجرد العبادة (ثبت ان التبشير للمذاهب والأديان في مجتمعات الشرق لا يؤدي الى تغيير ذي معنى، حتى لو حدث).

لكن مسألة (ضرب التنوع) هي سياسية بالدرجة الأساس، ويعتمدها المتطرفون، وهي تبدأ بالدين المختلف، وتنتهي بالدائرة الدينية الواحدة بين المذاهب، اسلامية او مسيحية. وغاية المتطرفين من ذلك هو: ضرب الاستقرار السياسي والإجتماعي، وخلق بيئة مناسبة، تُفسح المجال لقوى التطرف، في جذب عناصر للتجنيد العنفي، كما نشهد نموذجه الآن في مصر، حيث تفجير الكنائس في سيناء والاسكندرية وغيرها. ونحن ندرك اليوم بصورة واضحة، أنه في ظل التسامح والتعايش، لا يمكن للقوى المتطرفة ان تنجح في تحقيق غاياتها السياسية.

وهنا علينا أن ندرك حقيقة أن من يضحي بالتنوع والتسامح في الدائرة البشرية العامة، ويرفض حتى مجرد حرية أداء الشعائر الدينية، فإنه يجازف بتدمير الاستقرار المحلي، وسيادة الفكر الأحادي المتطرف، وتوتير الوضع الى حد اشعال حروب أهلية، وقيام مجازر وتهجير وهجرة جماعية، كما شهدنا ذلك في بلدان عربية في تجربتها الحديثة (سوريا والعراق).

الحفاظ على التنوّع ـ إذن ـ هو حفاظ على الذات، كما على المصالح الخاصة بالأفراد والجماعات. ونشر قيم التعايش والتسامح هو الأداة الأساسية لمكافحة التطرف، كما أكد ذلك سمو ولي العهد، الذي رأى أن مدّ جسور التواصل والتعاون لتعزيز ثقافة السلام والتعايش، والإعلاء من قيمة هذه المفاهيم، ضرورة للتصدي لمظاهر التطرف كافة.

إن الدفاع عن هذا التنوع، ورفض المساس بحقوق الآخرين من أية ديانة كانت، هو دفاع عن النفس، في الحد الأدنى. ولذا رأينا شعوب دول عديدة، تنتفض رفضاً لاستهداف المسلمين، لأن ذلك يعني، نشوء العنصريات، وسيادة البغضاء، وشق المجتمع، وتأجيج العنف والإرهاب، وتقوية لعناصر التشدد والتطرف كفعل ورد فعل.

من يقبل بهضم الآخر حقوقه حتى في حرية العبادة، فإنه يجازف بحريته هو، ليس فقط في الجزء الديني ـ العبادي، بل وبحريته الاجتماعية، وبمصالحه الاقتصادية، وبأمنه واستقراره. ولذا فإن الدفاع عن حقوق الآخر دينياً وعبادياً، أكان مواطناً أم مقيماً، ليس مجرد واجب أخلاقي وإنساني وديني فحسب، بل هو في حدوده الدنيا (مصلحة للفرد وكامل المجتمع)، وإن واجب الحفاظ على مناخ التسامح والتعايش، ضرورة لجميع أفراد الدولة ومن يقيم عليها، وضرورة لاستقرار النظام السياسي والأمني والاجتماعي، الذي لا سبيل للحفاظ عليه الا بالتعايش والتسامح، ومنع تسلل أفكار التطرف من وراء الحدود، والضرب بيد قوية ضد من يعبث بهذا المبدأ العظيم (حرية العبادة /‏ لكم دينكم وليَ دين).

بقي أن نقول بأن المواطنة بما تتضمنه من حقوق، ومن مساواة مجتمعية، ومن واجبات متكافئة، هي أساس النظرة الى الأفراد في الدولة المدنية الحديثة؛ وهي التي توفر قاعدة التسامح والتعايش والتفاعل الايجابي بين المواطنين. وإن النظرة الى الأفراد على قاعدة الدين أو المذهب، يؤدي الى التمييز، ويولّد الشحناء والكراهية بين أفراد المجتمع على أسس تمثيل واحتكار مزعوم لـ (الفرقة الناجية)، ويؤسس بين المواطنين تراتبية باطلة: كمواطنين درجة اولى وثانية وثالثة، ويسيء للعلاقة بين مكونات المجتمع، او بعضها مع النظام السياسي.