حميد الكفائي

يلهج مفكرون كثر في بلداننا بإدانة التكفير ولعنه واعتباره نقمة وقعت على الأمتين العربية والإسلامية بسبب لجوء بعض رجال الدين إلى تكفير من يختلف معهم في المعتقد. 

لكنهم ربما أخطأوا الهدف، فالتكفير ليس المشكلة الحقيقية، فهو رأي ديني يُبنى على محدِّدات معينة، خاطئة كانت أم صائبة، فمن طبيعة الأديان المتأصلة أن يرى أتباع أي منها أن دينهم صحيح وغيره خطأ، فكيف، إذاً، نطالب الفقهاء بأن يمتنعوا عن إبداء آرائهم في ما يعتقدونه صحيحاً أو خاطئاً؟.

لقد أعطى القرآن الإنسان الحرية في أن يؤمن أو لا يؤمن. فقد جاء في سورة «الكهف»: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، كما جاء في سورة «الكافرون»: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم لكم دينكم ولي دين». وهذه الآيات واضحة وصريحة في منح الإنسان حق اختيار عقيدته بحرية تامة.

كما جاء في سورة «النحل»: «ادْعُ إِلى سبِيلِ ربّكَ بِالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وَجادلهم بالتي هي أحسن إِن ربّكَ هو أعلم بمن ضلّ عن سبيلِهِ وهو أعلم بالمهتدين». وهذه الآية تأمر المؤمنين باتباع سبيل الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الإيمان، وهي تخبر أيضاً بأن الله، وليس الإنسان، أعلم بمن ضل ومن اهتدى، وهذا توجيه واضح بتجنب الحكم على الآخرين في قضايا الإيمان والكفر.

وعلى رغم وضوح سبب رفض التكفير، وذلك لما يترتب عليه من عواقب وأخطار قد تقود إلى ارتكاب جرائم بحق المكَفَّرِين، فإن المشكلة الحقيقية ليست في التكفير بل في القبول بما يترتب على التكفير من نتائج وكأن هذا الأمر غير قابل للمعالجة وأن الحل الوحيد المتاح أمامنا هو رفض التكفير واعتبار الناس جميعاً مؤمنين مع علمنا أنهم ليسوا كذلك. فما زال الإنسان حراً في أن يؤمن أو لا يؤمن، بنص القرآن، فليس من حق أحد أن يقسره على الإيمان أو يرهبه أو يعاقبه تحت أي ذريعة. وفي هذا العصر الذي يسوده القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، لم يعد هناك مكان مريح للقسر والإرهاب.

علاج المشكلة إذاً لا يكمن في منع التكفير أو نفي الكفر عن أي شخص، فهذه مسألة تتعلق بالرأي، والإيمان والكفر مسائل موضوعية تخضع لقناعة الفرد والنصوص الدينية تمنح الفرد هذا الحق، بل هو في رفض ما يترتب على التكفير من تجاوزات على حرية الأفراد وانتهاك لحقهم الطبيعي والقانوني والإنساني في الاعتقاد بما يقتنعون به من أفكار وعقائد مهما كانت مخالفة للأفكار المألوفة والعقائد السائدة. 

عندما يُلفظ حد الكفر من النصوص الدينية، وتتغير ثقافة المؤمنين نحو احترام الاختلاف وحرية المعتقد، عندئذ لن يكون التكفير سوى تعبير عن رأي، وهو يتماشى مع الآية التي تحض على اتباع الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله، مع التأكيد أن الحكم على الآخرين في مسائل الإيمان وعدمه لم يعد مقبولاً ولا يؤدي أي غرض. وهنا من حقنا أن نتساءل من أين جاء حد الردة أو الكفر مع وجود هذه النصوص القرآنية الواضحة التي تضمن حرية الإنسان في الاعتقاد في الدنيا، وتنسجم مع مبدأ الثواب والعقاب في الآخرة؟

المشكلة الأخرى المتعلقة بهذا الأمر هي عدم وضوح القوانين في العالم العربي والإسلامي وضعفها بل استسلامها للنصوص الدينية وتفسيرات الفقهاء التقليدية لهذه النصوص وكأن هذه التفسيرات والآراء مُنزّلة من الخالق ومفروضة على بني البشر، بينما الحقيقة أنها آراء قابلة للتصويب والتخطئة. فالفقهاء جميعاً بشر، يخطئون ويصيبون حتى وإن ارتدوا زياً مميزاً، واتبعوا سلوكاً حياتياً مختلفاً. والحقيقة أن المتشددين منهم يخلقون مشاكل كبيرة لأتباعهم والمجتمع والدولة والاقتصاد والعلاقات الدولية ويعرقلون مسيرة بلدان كثيرة وحياة الناس الذين يفترض أنهم يسعون إلى تربيتهم روحياً.

والمشكلة الثالثة التي تعاني منها دول إسلامية عدة هي التردد في معاملة رجل الدين كمواطن يخضع للقوانين المرعية، فهي تعامله وكأنه يتمتع بحصانة سماوية تحميه من ملاحقة القانون وهذا يدفع بعضهم لأن يتصرفوا خارج القانون، وهم في نهاية المطاف بشر يصابون بالغرور وتغويهم السلطة المعنوية التي يوفرها لهم الدين والإيمان الفطري للناس. 

والمشكلة الرابعة أن الكثيرين من رجال الدين هذه الأيام لم يدرسوا في الجامعات والمعاهد الدينية المرموقة ولم يتدرجوا في اكتسابهم العلم بل أصبح ارتداء الزي الديني سهلاً، وفعلاً ارتداه أشخاص غير مؤهلين فأصبحوا «شيوخاً» و «علماء» من دون دراسة. لكن هذا التطفل على العلوم الدينية والتسرع في تبوؤ موقع «العلماء» لم يمنعا أن يكون لهم أتباع في بلدان كثيرة. أحد هؤلاء أصدر فتوى تسببت في مقتل 120 ألف جزائري في التسعينات، إذ أجاز قتل النساء والأطفال الأبرياء أثناء القيام بواجب «الجهاد في سبيل الله».

وما أكثر الذين أجازوا لأنفسهم إصدار الفتاوى والأحكام الدينية من دون أن يكونوا أهلاً لها ما تسبب في قتل الأبرياء وإضعاف الدول التي ينتمون إليها وزعزعة الأمن في بلدان كثيرة. لقد أصبح لزاماً على الدولة أن تتخذ إجراءات رادعة وفق القانون لمنع المتشدقين بالدين من تدمير المجتمع وإضعاف الدولة وإرهاب الناس. 

كما أصبح من ضرورات سلامة الدين والأخلاق واستمرار الوئام الاجتماعي أن تبين المؤسسات والجامعات الدينية وجهة نظرها بما يدعيه هؤلاء من آراء دينية تثير الكراهية والعنف وتزعزع استقرار المجتمع وتثير الاقتتال بين الناس وتحض على الكراهية ضد أتباع الأديان والمذاهب والمعتقدات الأخرى.

هذه الأمور تزداد خطورة كل يوم مع انتشار وسائل الاتصال والتواصل والإعلام. السكوت والتجاهل اللذان يمارسهما قادة المؤسسات الدينية لم يعودا خياراً مسؤولاً لأن المسألة أصبحت تتعلق بوجود مجتمعاتنا واستقرار وتماسك دولنا ودورها في الاستقرار العالمي. يجب أن تطبق الحكومات القانون بحق المتجاوزين وإن كانوا يرتدون الزي الديني، وعلى الجامعات والمؤسسات الدينية الحقيقية، التي أحسب أنها معتدلة وتريد صلاح المجتمع، أن تنشط في تعرية المتاجرين بالدين كي تنقذ المجتمع منهم وتساهم في تطوير بلداننا التي طال تأخرها وتحسين صورة الإسلام الذي أصبح متهماً بالتطرف نتيجة أفعال المتطرفين.


* كاتب عراقي