نديم قطيش

عجّ الإعلام الأميركي، ومعظمه مناهض لدونالد ترمب، بالمقارنات بين خطابه في المملكة العربية السعودية ومواقفه المعاكسة التي أطلقها مرشحاً ورئيساً.

لم ينس هذه الإعلام هجوم ترمب على هيلاري كلينتون لأنها لم ترتدِ الحجاب في زيارة سابقة للسعودية. كذلك ذكَّره الإعلام الأميركي، بعد تصريحاته بأن 95 في المائة من ضحايا الإرهاب مسلمون، بتصريحات سابقة فظة له عن الإسلام عدّ فيها أن «الإسلام يكرهنا»، مستعيداً المفردة الأكثر مدعاة للفرز بين أميركا والمسلمين والتي ازدهرت بعد جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عبر سؤال: «لماذا يكرهوننا؟».

لم يكن ممكناً لأحد - دعك من إعلام تأخذ شريحة جادة وكبيرة منه على عاتقها تكوين ملف يؤدي إلى إزاحة ترمب من البيت الأبيض - إلا أن يتوقف عند تناقضات ترمب؛ فالفجوة كبيرة بين «الترمبين». الرجل صنع صورة فاقعة لنفسه عبر خطاب شعبوي حاد لا يقيم وزناً للحقائق بقدر ما يهتم بفاعلية ما يقول وتأثيره وأذيته وقدرته على هدم الأعراف والقيم وخطاب الصواب السياسي.

ما يعنيني من المقارنات التي اجتاحت الإعلام الأميركي، ولا تزال، ليس الطعن في مصداقية ترمب وانتهازيته كسياسي، بل ما يعنيه كلامه بالنسبة للموجة الشعبوية، التي لا يزال ترمب أبرز نجاحاتها في العالم السياسي اليوم.

كلام ترمب في السعودية هو ضمناً وعلناً إقرار بحدود قدرة الخطاب الشعبوي، أمام الحقائق السياسية والاستراتيجية الصعبة. لن يكون بوسعه الاستمرار بألاعيب المرشح أو حديث النعمة السياسية، مستثمراً في الخوف والقلق عند الأميركيين وسوء الفهم بين شريحة كبيرة منهم وبين المسلمين، في مقابل حقائق ثابتة حول واقع الشرق الأوسط، وموقعه على خريطة المصالح الدولية. 

قال الملك سلمان في مستهل كلمته في القمة الأميركية - الإسلامية إن الحاضرين يمثلون 55 دولة ومليارا ونصف المليار مسلم. وأضاف باسم كل هؤلاء أن «مسؤوليتنا أمام الله ثم أمام شعوبنا والعالم أجمع أن نقف متحدين لمحاربة قوى الشر والتطرف أيا كان مصدرها»، وهذا موقف راسخ يشهد له الخيار الاستراتيجي السعودي بمحاربة الإرهاب رغم كل الدعاية المضادة.

وجاء افتتاح مركز «اعتدال» لينقل هذا الالتزام بمكافحة الإرهاب إلى مرحلة عملية جديدة، بالتعاون مع عدد كبير من الدول، وليحول الرياض إلى عاصمة متقدمة، باعتراف العالم، في المعركة مع التطرف والجريمة.

لا أحد بوسعه الادعاء أن الانقلاب في خطاب ترمب هو نهاية الموجة الشعبوية التي أكثر ما التصقت به وأكثر ما بدت محاصرة، أمام وقائع قمة الرياض في آن.

نُعيت هذه الموجة مراراً قبلاً وأثبتت أن قدرتها على الحياة كبيرة. حتى انتخاب الشاب الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا، لم يلغِ حقيقة أن واحداً من كل ثلاثة فرنسيين اختار الخطاب الشعبوي العنصري لمارين لوبان. ولا يبدد الواقع أن السياسات الشعبوية وأحزابها باتت جزءاً من التيار الرئيسي للأحزاب السياسية في أوروبا وخارجها. 

لكن خطاب ترمب، الذي وصف بالرئاسي، عملياً، هو استسلام إحدى أيقونات هذه الموجة لمنطق الوقائع والمصالح وتزاوجها. استضافة المملكة مركز «اعتدال»، وانضمام «الناتو» إلى التحالف الشرق أوسطي لمكافحة الإرهاب، إلى جانب الأهمية العملية الكبيرة لهذين الملمحين، هما اعتراف من العالم بأن «قانون جاستا»، بات جزءاً من التاريخ، ومن تاريخ فصل من فصول السذاجة في التعاطي مع توازنات الشرق الأوسط.

وهو يعلن نهاية ما يسميه الأمير تركي الفيصل «الحديث إلينا بلسانين»، لسان يريد أن يستفيد من جهود السعودية في مكافحة الإرهاب، ولسان يتهمها به ويغازل خصومها ممن شكلوا للإرهاب منصات وحواضن ولا يزالون.

ولعل أبرز ما وضعت قمة الرياض حداً له هو الإرث الساذج والخبيث في آن، للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي قرر أن «الإرهاب السنّي» يواجه بالتحالف مع «الإرهاب الشيعي» ورعاته. وفق هذا التصور شُنت حملات على الرياض، ساهم في تزخيمها اللوبي الإيراني الفاعل في العاصمة الأميركية، والعدد الكبير من المقالات والمقابلات والمداخلات في المنتديات الدولية لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، مستفيداً من زخم الاتفاق النووي.

وكانت الرياض في المقابل تنتقل من مبادرة إلى مبادرة لتسوية الأمور بالتي هي أحسن. قمة الرياض أكدت أننا إزاء سعودية جديدة قال باسمها الملك سلمان ما كان ينبغي أن يقال منذ زمن بعيد:

«إننا في هذه الدولة منذ 300 عام لم نعرف إرهاباً أو تطرفاً حتى أطلّت ثورة الخميني برأسها عام 1979» من دون أن يسقط رهان بلاده على الاعتدال والوسطية. وهو ما سمعه قبلاً الرئيس أوباما من الأمير محمد بن سلمان في زيارته الأولى إلى واشنطن.
قمة الرياض بهذا المعنى هي قمة الاعتدال... الاعتدال الواثق، القادر، المبادر، الذي يرفض أن يُخاطِب، أو يُخاطَب، بلسانين.