خليل علي حيدر

ماذا نفعل بعناصر «داعش» وبقية التنظيمات، العائدين إلى مصر، والسعودية، والمغرب، وغيرها؟ لا أحد يعرف من أين سيتسربون أو كيف سيدخلون إلى أوطانهم المتورطة بهم، ولا أحد يعرف تحديداً كم عددهم، وكم زاد من ذلك العدد وكم نقص، بعد كل تلك العمليات المتوحشة والتفجيرات الدامية التي ارتكبوها في الديار التي ابتليت طويلاً، ولا تزال بجهادهم ورباطهم! إنهم العائدون من سوريا والعراق وغيرها بعد أن دارت عليهم الدوائر، فقتل من قتل، وأسر من أسر، وهرب من هرب، تطارده لعنة سكان أهل سوريا والعراق، وكل البلاد التي ذاقت من «جهادهم» الويلات.

مع تراجع القدرة العسكرية لهذه المجموعات الإرهابية، واقتراب معركة الحسم في «الموصل»، وربما بعدها «الرقة»، وما قد يصحب «داعش» من تفكك وتشتت أو تحالفات جديدة لإدامة الإرهاب، باتت دول عربية وغربية عديدة منهمكة قلقة بكيفية التصرف مع عودة آلاف المقاتلين إلى مجتمعاتهم، بما يحملون من خبرات إرهابية مدمرة.

القادمون الجدد أخطر من «العرب الأفغان» الذين عادوا إلى بلدانهم من أفغانستان قبل ثلاثين سنة، والذين أسسوا مدارس جديدة آنذاك للإرهاب! فمع تعدد التنظيمات الإرهابية المحلية والعالمية اليوم وتقدم التقنيات والإلكترونيات والمهارات الإرهابية، وتطوير وسائل الانتقال وغيره تضاعفت شرور هؤلاء الجدد.

ويرصد الباحث «علي بكر» من ملامح الخطر الجديد ضخامة الأعداد وتنوع التركيب واتساع خيارات الانتقال بين «المواقع الجهادية»، ونوعية «الفكر الجهادي» الداعشي الذي تحول إلى نظريات فذة في الإبادة والتكفير. وقد وصل عدد المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا في صفوف التنظيمات الإرهابية إلى ما يقرب من الثلاثين ألف مقاتل، نسبة لا بأس بها منهم، يؤكد الباحث، ينتمون إلى دول عربية، الأمر الذي سيجعل المنطقة العربية بانتظار ما يشبه طوفاناً من العائدين. في مقدمة هذه الدول المغرب والمملكة العربية السعودية، وباكستان، وتونس، وفرنسا، وألمانيا، وإندونيسيا، والأردن، وروسيا، وتركيا، وأفغانستان، وأذربيجان، وبلجيكا، والبلقان، ومصر. ومنها كذلك البحرين والكويت والجزائر والسودان.. وقطر وفيتنام!

خطورة العائدين ليست فكرية بحتة. ذلك أن لبعض تلك العناصر «سجلاً جنائياً، يتنوع بين جرائم سرقة أو تجارة مخدرات» وتقول دراسة ألمانية إن نحو نصف الأشخاص الذين شملتهم الدراسة ممن سافروا إلى سوريا للقتال، 670 شخصاً، من المسجلين جنائياً بارتكاب جرائم عنف أو مخدرات. وبالتالي، يقول الباحث في العدد 208 من «السياسة الدولية»، أبريل 2017، «إن العالم أمام شخصيات مقاتلة تجمع بين التشدد الفكري والسوابق الإجرامية، مما يجعل محاولة تأهيلهم فكرياً أو اجتماعياً في غاية الصعوبة».

لا يعاني القادمون الجدد من التشدد وحده.. بل من «التحجر الفكري» (ويرى الفكر المتحجر أنه الوحيد الذي يمثل الإسلام، وأن معتنقيه هم المسلمون، ومن سواهم كفار. ويفسر هذا تكفير داعش للجميع، حتى التيارات الإسلامية الجهادية. بل إن تنظيم القاعدة نفسه وسم هؤلاء بالتشدد والغلو، فمثلاً وصف أبو قتادة الفلسطيني أتباع هذا الفكر بأنهم «كلاب أهل النار» الذين يعدون كل من لا ينتمي إليهم أعداء للإسلام والمسلمين). ويؤمن مجاهدو «داعش» بالتقيّة العقائدية. فكل من حولهم كفار، لكن يجوز التعامل معهم بالتقية إذا كانوا أقوى من المجاهدين، مثل التعامل مع الحكومات والمؤسسات الأمنية، بإظهار التخلي عن المعتقد، أو كما يطلقون عليه «كتم الإيمان»، والتظاهر بقبول أي مراجعات فكرية أو برامج تأهيلية، وذلك من أجل الحفاظ على النفس من السجن أو الهلاك، ثم العودة إلى الفكر التكفيري، والإفصاح عنه بمجرد زوال الخطر!

كيف تتعامل الحكومات مع العائدين؟ لدى عدد من الدول العربية خبرات سابقة في التعامل مع العائدين أو غيرهم من «المتطرفين المحليين»، فهل لا زال العلاج القديم ناجعاً؟ هل تجدي مع القادمين الجدد «المناصحة» مثلاً أو «الترشيد الفكري» أو «حقن» هؤلاء بأفكار الوسطية والاعتدال والمراجعات؟ يبدو أن الأفكار المتشددة التي كانت تعالجها تلك المراجعات والمناصحات قد اختلفت بشكل كبير واستعصت اليوم على الدواء. وكما باتت بعض الأمراض والفيروسات عصية على المضادات الحيوية، فإن طرق الترشيد التقليدية التي جربت في السعودية ومصر وحتى مراجعات «الجماعة الليبية المقاتلة»، يلاحظ الباحث، «كلها لم تعد تجدي نفعاً مع المنظومة الفكرية الجديدة للعائدين». وهناك أمثلة تبرز خطورة الوضع!

«ففي السعودية، شارك عدد ممن خضعوا لتلك البرامج في عميات إرهابية، مثل الانتحاري سعد الحارثي، الذي فجر نفسه في المصلين في مسجد المشهد، في نجران، في 26 أكتوبر 2015، فقد كان ممن خضعوا سابقاً لبرامج المناصحة. وفي مصر، تعرضت المراجعات الفكرية، التي قام بها كل من تنظيم الجهاد المصري، والجماعة الإسلامية، لما يشبه الانقلاب عليها، حيث عاد بعض الرموز التي كانت تؤيد هذه المراجعات إلى العنف، مثل أبي العلا عبد ربه، قاتل الكاتب فرج فودة. فقد أمضى ما يقرب من 20 عاماً في السجن. وعندما أتيحت له الفرصة، سافر إلى سوريا، والتحق بجبهة النصرة، وظهر في أكتوبر 2016 فوق إحدى آلياتها العسكرية، يحض أعضاءها على القتال».

هل يجدي إذن «الإدماج المجتمعي».. في احتواء العائدين، باستقبالهم كمواطنين ومنحهم الحرية في ظل رقابة أمنية ومحاولة إعادتهم للحياة الطبيعية؟

قد تكون هذه خطوة معقولة، ولكنها كذلك غير مضمونة، ما دام فكر هذا المجاهد قائماً على الكتمان ومواصلة الجهاد. يقول الباحث: «ومن أبرز الأمثلة على ذلك أبو زكريا البريطاني، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت الجيش العراقي في فبراير 2017، إذ كان قد أطلق سراحه من معتقل جوانتانامو في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضاً مادياً بلغ مليون جنيه إسترليني. ورغم ذلك، توجه إلى سوريا عام 2014، وانضم إلى داعش. وفي الوقت ذاته، قد لا تسمح الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية، التي ينتمي لها العائدون، بالقيام بهذا الدور كما ينبغي، لا سيما في ظل الأعداد الضخمة المتوقعة من العائدين». لم يبق على الأرجح إلا السجن! ولكن السجون بدورها باتت في أحيان كثيرة مراكز لتبادل وترسيخ الأفكار الإرهابية! من يملك حلاً؟ فالعائد من الإرهاب كالمستمر فيه.