غسان شربل 

 حاولت أن أفهم الأزمة الجديدة في العلاقات القطرية - السعودية، وهي أيضا أزمة في العلاقات القطرية - الخليجية. في الحساب المنطقي لقطر مصلحة فعلية في أن تكون عضواً طبيعياً وفاعلاً في مجلس التعاون الخليجي. وما حدث في السنتين الماضيتين أوحى أنها أعادت النظر في السياسات التي قامت على تظهير الخلاف والمشاكسة والسباحة ضد التيار الغالب في المحيط الذي تنتمي إليه.
ولا غرابة أصلاً أن تسعى دولة إلى توسيع دورها وتعزيزه، خصوصاً إذا امتلكت أوراق قوة مالية وإعلامية تستطيع التأثير في مواقف الأطراف أو الدول أو الرأي العام. والدول هنا تشبه الأفراد أحيانا. تذهب بعيداً في الأحلام إلى حدّ السقوط في الأوهام، وتتعلق بدور كبير لعبته حتى ولو تغيرت الظروف التي كانت تسمح.
ولأن الحاضر لا ينفصل عن الماضي القريب قلت أرجع إلى أوراقي وما سمعته أو نشرته.
لدى اندلاع الثورة في ليبيا انهمكت بصفتي صحافياً في جمع الروايات عن عهد معمر القذافي المديد، والتقيت عدداً ممن كانوا إلى جانبه منذ البدايات حتى اندلاع الأحداث، سواء في الخيمة أم الحكومة أم مجلس قيادة الثورة.
ما يعنيني هنا هو بعض ما جاء في حوار طويل أجريته في فبراير (شباط) 2014 مع رئيس الحكومة الليبي السابق، محمود جبريل، ونشر على حلقات في الزميلة «الحياة».
قال جبريل إن قطر التي أمدّت الانتفاضة الليبية بالمال والسلاح راهنت منذ البداية على الإسلام السياسي، وبذلت جهوداً استثنائية لتنصيب عبد الحكيم بلحاج قائداً لثوار ليبيا. وبلحاج هو الأمير السابق لـ«الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» شارك في القتال بأفغانستان واعتقله الأميركيون وسلّموه إلى القذافي وبقي في السجن حتى 2010. وأكد جبريل أن قطر أخرت موعد اندلاع الانتفاضة في طرابلس ليتسنى لبلحاج الوصول إليها وبهدف تكريس دوره القيادي. وروى أنه غادر اجتماعاً ثنائياً كان يعقده مع ولي عهد قطر الشيخ تميم لأن الأخير انشغل عنه بمتابعة مشاهد كانت تبثها قناة «الجزيرة» لوصول بلحاج إلى ثكنة باب العزيزية في طرابلس.
روى جبريل أيضا حادثة بالغة الدلالات. قال إن مؤتمراً لأصدقاء ليبيا عقد في باريس في سبتمبر (أيلول) 2011، وانتهى اللقاء بمؤتمر صحافي شارك فيه نيكولا ساركوزي وديفيد كاميرون والشيخ حمد بن خليفة وجبريل ومصطفى عبد الجليل.
وقال جبريل: «سألني أحد الصحافيين الآن وقد سقط النظام ماذا ستفعلون بهذه الأسلحة المنتشرة؟ فقلت إن لدينا خطة لاستقرار طرابلس ولجمع الأسلحة وشرائها. قاطعني أمير قطر أمام الجميع، وقال: الثوار لا يلقون السلاح أبداً، الثوار هم الذين لديهم الشرعية. وكان ذلك طبعاً محرجاً وغريباً».
ملف ثانٍ. في الأسبوع الأخير من مارس (آذار) 2009 وقبل يومين من توجهه إلى القمة العربية التي عقدت في الدوحة، أجريت حواراً مع الرئيس علي عبد الله صالح. قال صالح: «الوساطة القطرية انتهت، وهي للأسف شجعت الحوثي على التمادي وأن يجعل من نفسه نداً للدولة وهذه كانت من الجوانب السلبية التي وقعت فيها الحكومة اليمنية».
الظروف التي سمحت لقطر بالقيام بالأدوار المشار إليها تغيرت. لم يعد هذا الدور ممكناً. الحريق السوري مفتوح ومعه التوتر السني - الشيعي. أميركا ترمب لا تشبه أميركا أوباما. أولوياتها في المنطقة شديدة الاختلاف. خطاب ترمب في الرياض مغاير لخطاب أوباما في القاهرة. لم تعد واشنطن تراهن على احتواء «القاعدة» عبر تسهيل وصول «إسلاميين معتدلين» إلى الحكم. لم يعد «الإخوان» خياراً وارداً أو مقبولاً. ولم تعد قطر قادرة على لعب دور الوسيط في هذا المجال. موقف إدارة ترمب من إيران واضح هو الآخر؛ لا تعتبر توقيع طهران الاتفاق النووي مكسباً أميركياً استثنائياً. إدارة ترمب تدعو إلى عزل إيران وتدين سياستها في الإقليم وتحديداً في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تشترط للتسليم بالحل الروسي في سوريا أن يقلص نفوذ إيران وينهي دور الميليشيات التابعة لها. وفي هذا المجال لا يتسع المجال لوساطة قطرية.
تغيّرت المنطقة. قمم الرياض أظهرت أين تقف الأكثرية العربية والإسلامية من الإرهاب والتطرف وسياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية. والعلاقات السعودية - الأميركية دخلت مساراً جديداً مختلفاً. ومصر تغيرت وكذلك اليمن.
ليس سهلاً على الدول أن تسلم بأن ما كان ممكناً لم يعد. عنادها يشبه أحياناً تعلق الأفراد بصور قديمة. لكن الأكيد هو أن علاقات قطر مع محيطها الطبيعي لن ترجع طبيعية ومستقرة إلا إذا أجرت مراجعة عميقة، وسلمت بأن الدور السابق صار متعذراً، وأن مصلحتها الفعلية هي في العودة إلى حدود الدور الطبيعي.. . .