محمد بشاري 

إن الشعوب وإن اختلفت في عقائدها وثقافتها، واتجاهاتها الفكرية، فلا بد من وجود نقطة التقاء، تجمع بين الشعوب الأوروبية والجاليات العربية والمسلمة، ليتم من خلالها التواصل، والتعاون المشترك، ونقطة الالتقاء قائمة على إطلاق الميثاق الاجتماعي المغيب في حوارنا، وهو عقد قائم على مجموعة من القيم الإنسانية المشتركة، التي لا يمكن لأحد عاقل أن يرفضها، فهي مجموعة أسس إذا طبقت باستطاعتها أن تجمع الكل حول هذا العقد أو الميثاق الاجتماعي. والعقد الاجتماعي يجمع كل السياسات والمواقف والإجراءات التي تقوم عليها العلاقة مع الآخر، والتي تأتي في إطار الالتزام بمنظومة القيم والمبادئ المعيارية، التي تضمن الوصول إلى هدف السلام والتعايش بين الشعوب والأقليات العرقية والدينية التي تعيش على أرضها، والعقد أو الميثاق الاجتماعي تحكمه قيم العدالة والمساواة، وتحيطه أخلاقيات الوفاء بالعهود، والأمانة، والصدق، وتقوده مبادئ التعاون، والعمل المشترك، كل هذه تمثل منظومة القيم المشتركة في العلاقة مع الآخر، والتي تساهم في بناء علاقات إنسانية، بين الإسلام والآخر، علاقة مبنية على المشترك الإنساني. يجب أن يكون الميثاق أو العقد الاجتماعي منضبطاً بمقتضيات قيم العدالة، والمساواة في الأخوة الإنسانية، والحرية والوفاء بالعهود والالتزامات، وإن أي إخلال بهذه القيم حتى لو أخذ شكل قانون استثنائي معناه تجذير الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، حيث إن القيم لا تتجزأ في المفهوم الإنساني، ولا ينفي بعضها بعضاً، وهو الذي يؤسس لبناء السلام الحقيقي بين الشعوب، ويحد من إمكانية حدوث أعمال التطرف والإرهاب والاحتقان المجتمعي.

ومن أهم البنود التي يقوم عليها العقد الاجتماعي: العدالة الاجتماعية، فكما هو معلوم، فإن العدل أساس الملك، وبه أوصت كل الشرائع والقوانين الإلهية، لأن غاية الدين الهداية وإشاعة الخير والعدل والرحمة، والعدل يبلغ في ميزان الله أن يكون قرين التوحيد، ويعد العدل من أهم المقومات التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية، والعدل ليس مجرد شعار يرفع، وإنما هو مبدأ من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية بين الناس، في حياتهم العملية، وينبغي على المسلم أن يكون عادلاً في سلوكه ومعاملاته مع نفسه، ومع الآخرين الذين قد يختلفون معه من حيث العقيدة والفكرة، وأن يصبح العدل مترجماً لسلوك يمكن معه إزالة الحواجز الاجتماعية بين الناس، وعلى وجهاء الأقليات المسلمة في أوروبا الطلب من السياسيين وأصحاب القرار تطبيق العدالة في مجال العلاقة مع الآخر، وأن تبنى كل العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة لكل الأطراف، وعدم الجور على طرف فيها، فضلاً عن عدم إلحاق الظلم بجماعة، أو فئة، أو أقلِّية ما، من جراء أعمال إرهابية أو عنف يقوم بها متطرفون.

ونحن نرى أن هناك علاقة وثيقة بين إقرار العدالة الاجتماعية، وإقرار السلام وتنشيط الحوار الثقافي والديني، فإذا اختلت العدالة، فإن السلام والسلم الاجتماعي يصبح بطريقة تلقائية في خطر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ كل التدابير الكفيلة بإزالة مصدر الخلل، بكل وسيلة مشروعة، ومنها استخدام وسائل الإصلاح ونشر ثقافة السلام والمعرفة في المدارس والمساجد وأماكن العبادة عند الغير، دفعاً للضرر وجلباً للمصلحة على قاعدة العدالة التي تعطي كل ذي حق حقه.

البند الثاني: المساواة في الأخوة الإنسانية، فمن مبادئ التعايش السلمي بين الشعوب المساواة الاجتماعية بين جميع الناس، مهما اختلفت أجناسهم وألسنتهم وألوانهم وبيئاتهم، فهم فروع لشجرة الإنسانية الواحدة، وأصلهم واحد، كلهم لآدم وآدم من تراب، فلا فضل للأبيض على الأسود، ولا للآري على السامي، وإنما يكون التفاضل بينهم على أساس الالتزام بالقانون وتجنب العنف والتطرف إلى جانب الإيمان والتقوى والعمل الصالح، الذي يخدم المجتمع الإنساني.

ونحن نفهم أن الأخوة الإنسانية تقوم على مبدأ المساواة في جميع المعاملات، وأن لا يلتفت إلى ما بينهم من فروق شخصية، أو اجتماعية، أو فكرية أو ثقافية أو لغوية، ولذلك علينا الدعوة إلى الوحدة بين مكونات المجتمع الإنساني والقائمة على المساواة بين أجناس البشر، والالتزام بالقانون القائم على المساواة بين الجميع في الحقوق المدنية.. ولا يمكن أن تنعم أوروبا بسلام آمن، ولا بحياة هادئة، إلا باقتلاع العنصرية وما تنشره من ثقافة الرهاب ومن الاستهزاء بقيم الآخر الدينية منها والثقافية، فهذه التصرفات تعد مدمرة للأخوة الإنسانية، وهي التي تخلق التطرف والتشدد والإرهاب.

وعلى ذلك ينبغي على قيادات المؤسسات الدينية والوطنية أن تطالب أصحاب القرار السياسي في الغرب بأن يقروا هذا الميثاق الاجتماعي، حيث لا ينتقص القانون من الحقوق الأساسية للأقليات، وأن يبادروا بتقديم الأفكار واقتراح الحلول والسياسات التي تسهم في إزالة كل أشكال التمييز العنصري أو العرقي، وألا تقوم العلاقات الإنسانية على اتفاقيات، تستهدف الإخلال بمبدأ المساواة بين الشركاء في الوطن الواحد، أو ما من شأنه تكريس وضع من أوضاع التفرقة العنصرية، وعلى جميع ممثلي المسلمين، أن يركزوا على إظهار الروح الجميلة لمفهوم المساواة في الإسلام، وتطبيقه واقعياً في معاملاتهم مع الآخرين، ليكون عملهم منهجاً يقتدي به الآخر.

البند الثالث، هو الوفاء بالعهود والمواثيق، فالخطاب الأخوي الإنساني لدى المسلمين يجب أن ينظر للعهود والمواثيق بين سكان الوطن الواحد بجدية ويعلن بوضوح الالتزام بهذه القوانين والعهود والمواثيق، ويؤكد حرمة انتهاك هذه القوانين والعهود والمواثيق، انطلاقاً من الواجب الديني والإنساني، الذي يدعو إليه الإسلام، ألا وهو الوفاء بالعهد، وعليهم أن يوجهوا الجاليات المسلمة بالوفاء بالمواثيق والعهود، وجعل الوفاء بها من الحقوق التي يلتزمون بها مع جيرانهم غير المسلمين، لأنها جزء من العدل الذي لا يعرف التفرقة لا في الزمان ولا المكان، ولا في الجنس والألوان، ولا يؤدي إلى تميز بالعقائد والأديان، وإن الوفاء بالعهود والمواثيق الإنسانية واجب يلتزمون به، وأهم شيء هو التحذير من الغدر والغيلة والخيانة.

إن الوفاء بالعهد والمواثيق، هو قاعدة ثابتة في الإسلام، والأخلاقيات المرتبطة بها لا تقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية، وإنما تمتد لتصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعايش والتعاون وعاملاً أساسياً لترسيخ ثقافة السلام والتسامح، حيث إن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد أسباب الإجراءات القانونية السلبية التي تحد من ممارسة الحرية الدينية وممارستها وتزيد من انتشار ثقافة الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا).

البند الرابع: التعاون الإنساني، حيث جاء الأمر في القرآن الكريم بـ(التعاون) المبني على فضائل الأخلاق، الهادف إلى تحقيق الخير الإنساني العام، والقرب من الله تعالى، كما جاء النهي عن (التعاون) المؤدي إلى انتهاك تلك الفضائل، الهادف إلى الاعتداء أو إلحاق الأذى بالآخرين، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، ويتضمَّن الأمر بالتعاون تقرير الاعتماد المتبادل كسياسة عامة في تسيير العلاقة بين المسلم والآخر في مختلف أطراف الوجود الاجتماعي، والذي يعني أن كل طرف لا يستطيع بمفرده القيام بأداء مهمة ما أو التقرير عن الآخر من دون الرجوع إليه أو فرض سياسة استثنائية عليه، ومن ثم فإن كلاً منهما يعتمد على الآخر في تحقيق بعض أهدافه، وإذا قام هذا التعاون أو الاعتماد المتبادل على أسس البر والتقوى، فإن الحصيلة النهائية له ستصب في الصالح الإنساني العام أو بالأقل لن تحقق الضرر بالأطراف الأخرى. وعلى ممثلي الأقليات المسلمة أن يوصلوا رسالتهم للمسلمين أن قيام أي شخص أو مجموعة بالإساءة إلى الإسلام يجب ألا تستغل لتصبح وسيلة للعدوان على الوطن، أو ممارسة أعمال عنف ضد مصالح الوطن، وحتى لو قام أصحاب القرار السياسي في الدولة بالدخول في أحلاف عسكرية، أو تكتلات سياسية تطال تنظيمات عنيفة تستخدم الدين وسيلة لخدمة أجندات سياسية، وعليهم تحييد الأقليات المسلمة عن الخوض في هذه الأمور، وأن يُحكّموا العقل في مواقفهم، وألا ينجروا وراء العاطفة، وعليهم وضع قواسم مشتركة للأخوة الإنسانية تكون بمثابة أرضية ثابتة، يمكن البناء عليها من أجل ترسيخ عقد اجتماعي قائم على علاقات مبنية على المساواة والعدل بين المسلمين وجيرانهم من أهل الأديان السماوية جميعاً.

*أمين عام المؤتمر الإسلامي- الأوروبي