مرام مكاوي

من الطبيعي أن تحصل خلافات بين الدول، ومن الشائع عالمياً وإقليمياً أن تحصل أزمات سياسية ومناوشات دبلوماسية. لا فرق في ذلك في دول العالم الأول الديمقراطية أو دول العالم الثالث التي تحكمها ميليشيات عسكرية. فهذا العالم قائم على المصالح التي قد تتقاطع أو تتعارض، ومسؤولية حكومة كل دولة هي رعاية مصالح شعبها السياسية والاقتصادية والأمنية.
ولأن السياسة فن الممكن، فقد يتصرف الساسة أحياناً على نحو مستغرب يخالف الهوى الشعبي أو المتوقع، لكن خلف ذلك هدف أكبر ومصلحة وطنية عليا قد لا تكون ظاهرة للعامة وقتها. وكما يقال في السياسة لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم لكن توجد مصالح مشتركة. وعليه يمكن في أحيان كثيرة فهم التحالفات المتغيرة للساسة. 
لكن إذا كان هذا فيما يتعلق بالسياسي فماذا عن المثقف؟ ما هو الدور المأمول منه وقت الأزمات؟
في مجتمعنا يوصف أرباب الأقلام عموماً بأنهم مثقفون، والحقيقة أنه ليس كل من أمسك بالقلم وكتب في الشأن العام، وظهر بكثافة في الصحافة والإعلام، يصح أن ينطبق عليه هذا الوصف. فالمثقف هو شخص واسع الاطلاع، فمقابل كل مقالة كتبها فقد سبقتها عشرات ومئات الكتب التي قرأها، إنسان يقرأ في كل اتجاه ويهتم بالتاريخ والعلوم والحضارة. وكنتيجة حتمية للبحث والمعرفة والقراءة بات واسع الأفق، يحمل ضميراً إنسانياً، ويحترم اختلاف الحضارات وتنوع الشعوب، ويدافع عن القيم البشرية المشتركة. فنجده مهتماً بحقوق الإنسان والمشاركة الشعبية، والتوزيع العادل للثروات، وحق الشعوب في الاستقلال، وتقرير المصير. وهذه القيم قد تتصادم أحياناً مع مصالح أو رغبات بني قومه سياسياً أو دينياً أو تجارياً. ولكنه، بعكس السياسي، ليس مضطراً بأن ينحاز لما يخالف ضميره ومبادئه. بل نجد له غالباً مواقف شجاعة قد يدفع ثمنها غالياً، خاصة إذا ما تم تصنيفه بالانتماء إلى الجماعات المعارضة أو المنبوذة أو المحظورة في بلده. ولدينا مثال ما حصل للمثقفين الأميركيين، الذين لم يسيروا في ركاب سياسة الحكومات الأميركية المتعاقبة إبان حقبة الحرب الباردة، من تعنت وتضييق وتهم معلبة بالانتماء للشيوعية في الحقبة المكارثية الشهيرة. فحتى في الدول الديمقراطية الكبرى قد يدفع المرء ثمن مواقفه المستقلة.
كعرب ومسلمين نعتز بالكثير من المثقفين الغربيين ممن وقفوا بكل ثبات مع الحق العربي في فلسطين المحتلة، وناصروا القضايا العربية لقناعاتهم بعدالتها، بغض النظر عن مواقف حكوماتهم، وكان لهم فضل كبير في كشف الكثير من الحقائق، التي حاول الإعلام الغربي المدعوم من قبل الآلة الصهيونية أو الجماعات المسيحية المتطرفة تشويهها.
وقد لا يتاح أحياناً للمثقف أن يتخذ موقفا صريحا خوفا من تعرضه للأذى الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وفي هذه الحال يصبح الصمت خيارا محترما ومقبولا. وربما يستطيع البعض أن يستخدم ذكاءه وقدراته الخطابية أو التعبيرية في التوفيق بين وجهات النظر المختلفة، فالمعارضة لا تُطلب لذاتها، كما أنه في السياسة كثيراً ما تكون الأمور متشابكة ومعقدة ولا وجود لأبيض أو أسود فيها، وإنما بقع رمادية متفاوتة في الدرجة والمساحة. فأفضل ما يقوم به المثقف هو تذكير الناس بالمصالح المشتركة، مساهماً في نزع فتيل الأزمة ووقف التصعيد الذي قد يفضي إلى الحروب والنزاعات المسلحة التي لا يربح منها غالباً أحد، والتي ينبغي أن لا يُلجأ لها إلا للتحرر الوطني أو الدفاع عن الحدود والثروات في حال اُستنفذت كل السبل الدبلوماسية الأخرى.
وقد يحصل أن ينحاز المثقف عن قناعة لمواقف السلطات في قضايا بعينها، حتى وإن خالف في ذلك رغبات الجماهير، وهنا عليه أن يكون شجاعاً، فلا يبحث عن الشعبية والأضواء والبطولة الزائفة، بل عليه مرة أخرى أن ينحاز لقناعاته ومبادئه. فمن الطبيعي أن يدافع المرء، مثقفاً كان أو غير مثقف، عن مواقف بلاده وكرامتها، بشرط أن يستعمل لغة الحقائق والمنطق والعدل، فلا ينزلق للمهاترات المخزية.
أما أسوأ ما قد يقوم به المثقف فهو أن يتحول إلى حية تبث سمومها وتحاول أن تسترزق من المشكلات أو الأزمات. والأسوأ أن يغلف ذلك بغطاء قيمي وطني، وكأنه بفعله المشين يثأر لكرامة وسمعة وطنه، بينما هو في الحقيقة انتهازي يبحث عن مكسب شخصي بحت. بل قد يبالغ في سقوطة من الهاوية فيبدأ
بتوزيع فرمانات التخوين على من يخالفه على الطريقة المكارثية إياها. هو في ذلك مثله تماماً مثل الإرهابي الداعشي، الذي يتستر بلباس الدين وأحاديث الجهاد لتحقيق منافع دنيوية شهوانية ومادية بحتة. ومثل هذا المثقف (إذا اعتبرناه كذلك مجازاً) لا يؤتمن، لأن ولاءه ظاهرياً وطني ولكنه في الحقيقة مستعد لتبديل جلده ليتناسب مع المرحلة، وليتماهى مع من يدفع له أكثر، أو يخدمه بصورة أشمل. وهو بانحيازه لشهواته ومصالحه الضيقة يكون قد خسر احترام الناس وحتى جمهوره حتى لو سبق وكانوا معجبين بفنه أو أدبه أو علمه.
في وسط الأزمات والتشاحن تصبح النفوس ضيقة، والأفكار سوداوية، وتُغلَّب النيات السيئة حتى بين أفراد العائلة الواحدة، فكيف إذا كنا نتحدث عن دول ومنظمات وقوى إقليمية ودولية؟ فتصدر التصريحات المتسرعة، وتنحسر اللغة الدبلوماسية المنمقة والمصقولة بعناية لتحل محلها لغة متشنجة، ومع انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي حالياً تبرز الوسوم (الهاشتاقات) المتعصبة، والتي كما وصفها أحد الزملاء عبارة عن بحر من الجنون. فهنا يكون المجتمع بحاجة إلى مفكريه ومثقفيه وكتابه ليحاولوا تفكيك المشكلات وتحليلها بطرق علمية ومنطقية، الغرض منها فهم أبعاد الأزمة أو تهدئة الأجواء وفتح المجال للوساطات الدبلوماسية. فلا يحتاج المجتمع وقتها حتماً إلى من يحبون اللعب بالنار وإذكاء العداوات والسخرية من الخصوم. عدا عن كون استخدام اللغة السوقية الساقطة يسيء لأهلهم ودولهم قبل من يشتمونهم لأنه يظهرهم وكأنهم بلا أخلاق، ويصبحون من المنافقين الذين من صفاتهم أنهم إذا خاصموا فجروا.
حفظ الله بلادنا من كل مكروه، وأبعد عنها شرور الأصدقاء قبل الأعداء.