FINANCIAL TIMES

فولفجانج مونشاو من بروكسل

ماتيو رينزي، ديفيد كاميرون، تيريزا ماي - جميعهم خُدعوا باستطلاعات الرأي. المشكلة لم تكُن أن استطلاعات الرأي كانت خاطئة. بعض منها كانت جيدة تماماً، ومعظمها كانت صحيحة في الوقت الذي اتّخذ فيه القادة القرارات المصيرية سياسياً.

من الواضح أن رئيسي وزراء إيطاليا وبريطانيا السابقين حصلا على دعم أغلبية ناخبيهم عندما قررا إجراء الاستفتاء وكانا متأكدين أن بإمكانهما الفوز. في الواقع كان حزب المحافظين متقدماً تماماً على حزب العمال في نيسان (أبريل) من هذا العام عندما قررت رئيسة الوزراء إجراء انتخاباتها المبكرة. السرعة التي غيّر بها الناخبون رأيهم كانت مصيرية أكثر من استطلاعات الرأي نفسها.
الناخبون الفرنسيون كانوا أكثر تطرفاً من أي ناخبين آخرين. فقد تمكّنوا من القضاء على المؤسسة السياسية بالكامل تقريباً في سلسلة قصيرة من الانتخابات. هذه الوحشية تفوق أي شيء شهدناه في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، حيث لا يزال الحزبان التقليديان يُهيمنان على السياسة. الفرنسيون في خضم عملية استنفاد جميع بدائلهم. من المؤلم التفكير فيما يُمكن أن يفعلوه إذا أصيبوا بخيبة أمل من إيمانويل ماكرون.
في جميع هذه البلدان أصبحت الأزمة المالية العالمية نقطة تحوّل تاريخية، ناجمة عن تأثير حل الأزمة على توزيع الدخل، وعلى نوعية القطاع العام. وقد أثارت رد فعل سياسي عنيفا دائما ضد العولمة وضد الاتفاقات التجارية العصرية. وتحدّت المعتقدات السابقة بشأن السياسة الاقتصادية والتنظيم المالي. والآن تتحدى طريقة تفكيرنا بشأن السياسة.


انتصار الرأسمالية على الشيوعية كان أقوى الأحداث التي أدت إلى تشكيل طريقة التفكير لدى كثير من المعلقين والمحللين. آمن جيلنا بشكل كبير بنماذج الرأسمالية المالية العالمية، على الرغم من أننا ربما كنّا متشككين بشأن نشوة "نهاية التاريخ" في التسعينيات. احتفلنا بظهور برجماتية يسار الوسط وجيل جديد من قادة يسار الوسط.
فشلنا كان أننا خلطنا بين السياسة الانتهازية لوقت معين وبين الأمور التي كانت صائبة دائما. حوّلت الأزمة المالية ما يبدو ظاهرياً أنه بيئة سياسية ومالية مستقرة إلى ما يدعوه علماء الرياضيات والفيزياء نظاما "ديناميكيا". السمة الرئيسة لمثل هذه الأنظمة هو عدم اليقين الجذري. الأنظمة التي من هذا القبيل ليست بالضرورة فوضوية -على الرغم من أن بعضها قد يكون كذلك- لكن بالتأكيد لا يُمكن التنبؤ بها. لا يُمكنك وضع نماذج لها من خلال بعض المعادلات. أفضل ما يُمكنك القيام به هو تحديد نقاط عدم الاستقرار والابتعاد عنها، وأن تشق طريقك كيفما اتفق وأن تظل منتبهاً للغاية.
عدم اليقين الجذري هو تحدّ كبير، لأنك لا يُمكن أبداً أن تكون متأكداً من الكثير. على وجه الخصوص، لم يعُد بإمكانك التأكد أنه يُمكنك استنتاج اتجاهات الماضي والاعتماد عليها من أجل المستقبل. استطلاعات الراي تُصبح أقل أهمية (حتى وإن كانت قادرة على إنتاج لقطة صحيحة للرأي في أي وقت). حتى الأدوات العصرية للغاية مثل تحليل شبكات التواصل الاجتماعي لا يُمكنها اقتحام المستقبل غير المعروف. فائدة هذه الأدوات تقتصر على تفسير الأمور التي اختلت في الماضي.
في عالم من عدم اليقين الجذري، المقامرة تُصبح أصعب لأن المعلومات التي تستند إليها أقل موثوقية. هذا صحيح بالطبع بالنسبة للمستثمرين، لكن أيضاً للسياسيين. ليس من المستغرب أن المقامرة السياسية الكبيرة في عصرنا، مثل الاستفتاءات الأخيرة في المملكة المتحدة وإيطاليا، قد فشلت.


السياسيون الأكثر نجاحاً هم الذين يعتمدون على المعرفة العميقة لناخبيهم وعلى حدسهم، بدلاً من الاعتماد على مجموعات التركيز أو الاستطلاع الحديثة. حتى ننجح نحن بحاجة إلى فهم الاختلاف بين المخاطر التي يُمكننا حسابها، وعدم اليقين العميق الذي لا يُمكننا حسابه. لنأخذ خروج بريطانيا مثالا على ذلك. ستكون الحكومة البريطانية حمقاء في المخاطرة بسياسة من شأنها دفع الاقتصاد البريطاني إلى حافة الهاوية. الاستراتيجية الذكية تعترف بأن خروج بريطانيا يجب أن يحدث، لكن بتقليل التكاليف. الخيار المعقول هو الخيار الأكثر تجنّباً للمخاطر: مرحلة انتقالية طويلة.
عصر عدم اليقين الجذري والحاجة إلى تجنّب المخاطر سوف ينتهي في مرحلة ما. لكن حتى ذلك الحين، أتوقع أن يلتهم مزيدا من آثار العصر الذهبي للاعتدال، مثل استهداف التضخم. الفكرة مُستمدة من أنموذج اقتصادي مرتبط بالعقيدة الاقتصادية في الفترة السابقة. بمجرد أن ننظر إلى الاقتصاد العالمي باعتباره نظاما ديناميكيا، لن نرغب بعد الآن في إخضاع أي بنك مركزي لصرامة هدف واحد. وقد نرغب في التشكيك في استقلالية البنك المركزي أيضاً، لأنه قائم على إجماع ربما لم يعُد قائماً.
بمجرد أن نقبل أن عالمنا المعولم يملك خصائص النظام الديناميكي، فإن كثيرا من افتراضاتنا ستسقط مثل أحجار الدومينو، وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية التي تتشبث بها.