مازن السديري

غازي القصيبي رجلٌ لم ألتقِ به أو تربطني به أي علاقة، وبرغم أنه شخصية محل اهتمام المجتمع وكثر الحديث والكتابة عنها إلا أن ذلك لم يساعدني لمعرفته بشكل متوازن، الصورة التي كانت لدي عنه منذ أن وعيت بأنه شاعر وكانت أعماله الشعرية الكاملة قد أصدرتها (تهامة) على شكل كتاب صغير لكنه كثير الصفحات مثل القواميس اللغوية وهي موضة في طباعة الدواوين الحديثة وقت ذاك، وأنه أيضاً سفير في مملكة البحرين الحبيبة التي عاشت أسرته فيها.

مع غزو الكويت ظهر مرة أخرى عبر مقالاته الشهيرة (في عين العاصفة) وكان ضيف القنوات الأميركية والبريطانية وبعد عام انتقل إلى لندن وتضاعف ظهوره بحكم الفعاليات الكثيرة هناك وتواجد المؤسسات الإعلامية الضخمة وفي منتصف التسعينيات ظهرت رواية (شقة الحرية) والتي أحدثت ضجة إعلامية وقت ذاك بما حملته من سرد عن تأثر شباب الخليج بالتيارات السياسية والفكرية خلال فترة الخمسينيات الميلادية وأصبح نجم الصحافة والإعلام، لكن برغم هذه الهالة وكتابه المهم (حياة في الإدارة) إلا أنها لم تساعدني في معرفة الدكتور غازي وكانت الصورة لدي بأنه فنان ومثقف وأيضاً رجل نزيه ونجاحه الوزاري في السبعينيات يعود لطفرة ضخمة عاشتها المملكة وعندما عاد وزيراً تعرض لموجة ضخمة من الانتقادات وكنت أؤيدها.

بعد سنوات عرفت أشياء كثيرة، تشرفت بعدة لقاءات مع المهندس علي النعيمي وكانت فرصة لمناقشة الذكريات وسألته عن سابك فأجاب مباشرة بأنه لولا غازي لما رأت النور، بل أضاف الكثير الكثير عن غازي بأنه كان دقيقاً في ملاحظاته الإدارية والاقتصادية، وذكر النعيمي في مذكراته عن القصيبي ما هو أهم مما ذكره القصيبي عن نفسه خصوصاً عندما نصح الراحلُ الملكَ عبدالله -رحمه الله- بإعطاء المجال لأرامكو لإكمال مشاريعها التوسعية في المملكة بدلاً من شركات البترول الأجنبية، ولولا هذه النصيحة لربما فقدت المملكة الكثيرة من طفرة النفط الأخيرة، الحقيقة تستمع للنعيمي وتعرف غازي أكثر، ذكر النعيمي لي بأن البنية التحتية والأنظمة قد لا تساعدانك لكنها والنتائج قد تأخذ وقتاً طويلاً، والمال ليس حلاً للمشاكل لكن عليك أن تعمل.

ذكر لي الأستاذ حمد السياري أنه في قلب الطفرة الثانية خلال منتصف السبعينيات اتخذت الدولة قراراً سيادياً بتقليص أسعار الكهرباء في وقت كانت المناطق النائية تُخدم عبر شركات صغيرة مما عرض بعض القرى والهجر للانقطاع المتكرر، ومع انخفاض الأسعار سوف يرتفع الطلب في ظل ارتفاع الدخل للفرد مع معدلات التوظيف خلال تلك الطفرة حيث قفز الإنفاق الحكومي من 5.5 مليارات عام 1968 إلى 284 مليار عام 1982 وأعدت دراسة -وجّه غازي بها- استشرافية لمدة خمسة وعشرين عاماً توضح تضاعف الطلب على الكهرباء ما دفع غازي لإلغاء شركات الكهرباء الصغيرة لتأسيس ثلاث شركات كبرى وتعويض الآخرين بأسهم في هذه الشركات وكان التعويض كريماً، تم ذلك بتمويل الصندوق الصناعي ثم صندوق الاستثمارات، كان مجهوداً ضخماً من أجل تحقيق القرار السيادي الذي كان يريده الراحلان الملك خالد والملك فهد -رحمهما الله-.

يذكر السياري بأن الصناعة بدأت بتعزيز مواد البناء والتشييد بحكم الطلب العالي ثم تطورت لصناعات أعقد مثل البتروكيماويات، وفِي البداية انتقد القصيبي الصندوق الصناعي لرفضه تمويل بعض المشاريع فوضح السياري بأن السبب هو الدقة لمعرفة كفاءتها وديمومتها واقتنع القصيبي بل طالب أموالاً أكثر لتخصص للصندوق لتوسيع نشاطاته.

كما أن الطفرة ليست وحدها هي سبب النجاح سابقاً لكن أيضاً ضعف أسعار البترول جعل مهمة غازي صعبة في العمل وسبق أني شرحت وضع الدكتور غازي فيها في مقال (ليس لغازي ولكن لذاكرة المملكة) لكن أضيف هنا بأن غازي استلم الوزارة ولم يكن لها مبنى ولا للوزير مكتب كما ذكر الدكتور عبدالواحد الحميد في حواره بصحيفة الحياة، وكان الحجم الاقتصادي محدوداً ومستوى تعليم العاطلين -وقت ذاك- متدنياً (70% لا يحملون الثانوية) وأنظمة سوق العمل والعمالة الأجنبية غير واضحة وتتطلب معالجة دقيقة وحازمة، وهنا تذكرت النعيمي عندما قال: "عليك أن تعمل مهما كانت الموارد والإمكانيات ولو تأخرت النتائج". وعمل غازي بنصح القيادة في تبني الابتعاث، وبدأ الإنفاق وتضاعف حجمه، ولكن غازي رحل وسط تلك التحولات.

الغريب بأن الرجل برغم ما كتب وما كُتب عنه إلا أن ذلك لم يكشف حقيقة وعيه التنموي والإداري ولكن شهادة الكرام (النعيمي والسياري) تنصف الكريم وهناك الكثير لم أذكره، رحم الله تلك القامة وأطال الله عمر الباقين.