عثمان الماجد

ما الدولة؟ سؤال أطرحه استهلالا في خضم الاعتلال الذي تعاني منه المجتمعات العربية والتعثر البين في مسيرها إلى تطوير مؤسسات الدولة فيها، ولعل وجاهة السؤال تتضاعف أكثر إذا ما تدارسنا أسباب هذه الحالة العربية، فأسباب ضبابية مفهوم الدولة وضياعه حتى لدى بعض المحسوبين على النخبة متعددة، ولكن أبرزها في نظري اعتمالات النفس الديني والمذهبي القميء الذي يملأ فضاءنا العربي، خاصة بعد التنامي المشبوه لـ «فكر» جماعات الإسلام السياسي الراديكالية شيعيها وسنيها، ومحاربته الشرسة لفكرة الدولة المدنية وثوابتها ومقوماتها بخلق كيانات سياسية هي أقرب ما يكون إلى منطق تشكل العصابات منها إلى منطق بناء الدولة، ولنا في الدولة الإسلامية بنموذجها الداعشي، والدولة الشيعية بنموذجها الخميني، أو الهلال الشيعي، النموذج الأممي المذهبي؟!! الذي تحارب من أجله الأحزاب الراديكالية الشيعية الممثلة في «حزب الله» و«الحشد الشعبي» بدعم وافر من دولة الملالي الخمينية، أحسن مثال دال على أن مفهوم الدولة نفسه صار في خطر بحكم الاستهداف الواضح الموجه إليه من عصابات الإسلام السياسي بمختلف ألوانها وتشكيلاتها.

 السؤال الاستهلالي تجيبنا عنه موسوعة «الويكيبيديا» على النحو الآتي: الدولة هي «مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة اقتصادية واجتماعية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها». السؤال والإجابة حريان بأن ينالا منا اهتماما استثنائيا، لكي ننهض بالفهم المجتمعي العام، ذلك أن إشاعة مفهوم الدولة بصيغته المدنية في المجتمع وتعزيزه معرفيا يمنع تسرب أفهام تيارات الإسلام السياسي إلى أفراد هذا المجتمع الذين هم عماد الدولة، ويطيح بمخططاتها في خداعهم على المستوى البعيد.

 عندما أنقل إليكم هذا التعريف للدولة فإني أهدف من ذلك مشاطرتكم الفهم بأن الدولة، تعريفا، ليس إنشاؤها محكوما بمجموعة من الأفراد محددي السمات ومتجانسي الفكر والمعتقد، أي أن هذه المجموعة من الأفراد أو تلك قد تكون مختلفة ومتنوعة على كل مستوى، سواء من حيث العرق أو الدين أو الثقافة أو الفكر.. الخ، وباستطاعة هذه التنوعات والاختلافات أن تتعايش في كنف دولة واحدة. ولهذا فإن كثيرا من المجتمعات الحية منذ نشأة الدولة الحديثة تاريخيا في القرن السابع عشر، وبالتحديد عندما وضعت حرب الثلاثين عاما التي دارت رحاها للاستحواذ على ميراث الإمبراطورية الرومانية في أوروبا أوزارها، قد استثمرت اختلاف مجموعة أفرادها أو مكوناتها الاجتماعية، وتنوع انتماءاتهم في إنشاء هوية وطنية تدين بالولاء لهذه الدولة وتلعب دورا حاسما في عملية البناء والتنمية.

 فكرة الدولة السنية أو الدولة الشيعية اللتين تروج لهما جماعات الإسلام السياسي مستجدة في الفهم العربي السياسي الحديث لقيت من يتعهدها بالرعاية لكي تنمو وترعرع في حضن «الثورة» الخمينية، وتزداد عنفوانا عندما وصلنا إلى العام 2011 حتى غدت هي الفكرة الأكثر استحواذا على ذهنية من تحركوا ضد حكوماتهم. وقد كانت البحرين، للأسف، إحدى الساحات التي شهدت مثل هذا الحراك الطائفي الذي سعى إلى إسقاط النظام وإقامة «الجمهورية الإسلامية» في مسعى واضح من قادة الحراك لترجمة الفكرة عمليا، وقد مني مسعاهم بالفشل المدوي، لأن حقيقة البنية الديمغرافية للمجتمع البحريني وثقافة مكوناته تتعاكس مع الفكرة التي جاء بها هؤلاء المذهبيون. غير أن إفشالنا لهذا المخطط الرهيب لا ينبغي له أن يعطينا الأمان الكامل بعدم عودة هذه الفكرة لمداعبة أذهان غيرهم لطمس هويتنا البحرينية التعددية في ثوبها الخليفي، هذه الهوية التي نفخر بها أمام العالم، لأنها نموذج فريد في انصهار الاختلافات المذهبية والعرقية ضمن إطار جامع مانع يجسد وجها من وجوه دولة المواطنة. فما المطلوب منا كي لا يعاود كابوس الأحلام الطائفية الظهور، ليهدد كياننا البحريني المتآلف؟

 أسأل سؤالي هذا وعيني مثبتة على وزارات التربية والتعليم في بلداننا الخليجية والعربية باعتبارها الطرف الأهم في مساعدة المجتمع على الخروج من فكرة ثنائية الدولة السنية والدولة الشيعية إلى رحاب مبادئ دولة المواطنة والديمقراطية، والتي فيها لا يحتاج المرء إلى الإفصاح عن دينه أو مذهبه أو عرقه ليكون عضوا فاعلا في المجتمع، لكن ذلك لا يقلل من أهمية أطراف أخرى مثل مؤسسات المجتمع المدني والإعلام - صحافة وتلفزيون- وكل ما ينتظم من وسائل متاحة في قائمة التواصل الاجتماعي، والتي أعتقد أن تأثيرها فوري في المجتمع بحكم ما باتت تمتلكه من سطوة ونفوذ في الفضاء العام. فعلى وزارات التربية والتعليم في بلداننا تقع المسؤولية الأكبر والأجل في إحداث التغيير الحاسم في مجتمعاتها، وذلك بسحب البساط من تحت أقدام تيارات الإسلام السياسي الراديكالي، ووقف مساعيها لبلوغ الشخصية التي يجهدون لنحت ملامحها وفق ما يستدعون من خزائن الماضي.. فكيف يتيسر لنا ذلك؟

 سآخذ وزارة التربية والتعليم في البحرين منطلقا للإجابة عن السؤال سالف الذكر، لأقول إن كل الجهود التي بذلتها هذه الوزارة ومازالت تجهد في ابتكار المزيد لتحسين جودة التعليم من خلال مناهج دراسية مواكبة للمتغيرات الحاصلة في المجتمع تستجيب لشروط المواطنة والحياة الديمقراطية ستذهب سدى في ظل ما شهده المجتمع البحريني من استفحال للمد الطائفي الذي غزا دور العبادة والمجالس في فترة من الفترات، وفي ظل مناهج تربوية موازية لم تغذ الناشئة إلا الحقد المذهبي ولم تترك أثرا لمنجز للدولة إلا وشوهته. ولهذا فإن جهود وزارة التربية والتعليم وإذا لم تكن معضودة بجهود إعلامية تربوية نابعة من المجتمع نفسه ستكون قاصرة عن بلوغ مقاصد هذه الوزارة في الإسهام في بناء مجتمع يتصدى لهلوسات الإسلام السياسي بكل أطيافه حول مفهوم الدولة، فعلى كل عاقل في هذه البلاد أن يدرك ما تمثله مقولات الإسلام السياسي من خطر ماحق خاصة وأن المكون الديني في الهوية البحرينية قد يكون إذا لم نعتن بترشيده ومراجعته وتنقيته مما علق به من الشوائب أرضية خصبة لاستقطاب المريدين لمشروع ظلامي ثيوقراطي قد يأتي على الأخضر واليابس إذا لم نحول ترسيخ عقلية المواطنة وثقافتها إلى مسؤولية جماعية مشتركة.