سمير عطا الله 

من الدروس العفوية العابرة التي لا تُنسى، يوم أخبرني صناعي أميركي أن كلفة صنع العلكة في شركته 5 سنتات، وكلفة الدعاية لها 11 سنتاً. قد تكون النسبة غير منطقية، لكن ليس هناك من منطق آخر. عندما تعود إلى قراءة أي حدث أو ظاهرة تاريخية، تلحظ أن رجل الدعاية مختبئ في الصفوف الخلفية من الصورة، غالباً بحيث لا يُرى. فعندما يكون مرئياً ومباشراً، يكون غير بارع تماماً. عندما عاد كولومبوس من رحلته الأولى إلى أميركا، وأراد أن يموّل رحلته الثانية، لم يذهب مباشرة إلى ملك إسبانيا هذه المرة، بل انتقى إحدى ساحات إشبيلية يعرّف فيها مكاسب «العالم الجديد»: طيور ببغاوات وأخرى ملونة و«هنود حمر» وعينات من الذهب. ولم تكن كميات الذهب كثيرة، لكنه وزَّع في ساحات إشبيلية وبرشلونة رجالاً ونساء يبثون الشائعات عن سهولة العثور على الذهب خلف المحيط: بمجرد أن تكنس سطح الأرض، تكنس الثروة. إنها دائماً في كعب «المكنسة». وقبل أن تسمى أميركا «العالم الجديد»، سمّيت «الدورادو»، أرض الذهب، وهو التعبير الذي لا يزال يُستخدم إلى اليوم لوصف الثروات والمناجم المكتشفة حديثاً.

قُتل كثيرون في رحلات البحث عن ذهب لا وجود له. وباع كثيرون كل ما يملكون من أجل السفر، ثم لم يعد بإمكانهم العودة. ورأت فئات كثيرة في «أرض الذهب» فرصة للهرب: المحتالون، والمحكومون، والهاربون من زوجاتهم. كل مرة أقرأ فيها قصة كولومبوس أتساءل، أين كانت عبقريته؟ إنه بالتأكيد لم يكن ملاَّحاً فذاً، وإلا لما ذهب إلى العالم الجديد وهو يعتقد أنه في سبيل اكتشاف طريق جديدة إلى الهند. أهم ما فيه كان حسه الدعائي واعتقاده بأن من السهل إقناع العرش الإسباني بتمويل مغامراته. أدرك أن إسبانيا تبحث من أجل حروبها عن الذهب، فاخترع جبالاً منه.

هتلر أدرك أن ذهب الألمان هو الشعور القومي، فأنشأ وزارة سماها بكل بساطة وزارة الدعاية. البروباغندا، التي أصبحت تُستخدم الآن بالمعنى المبتذل والمرفوض. لكن شيئاً لم يتغير: كل عمل سياسي، أو أدبي أو فني، في حاجة إلى دعاية. وأهمها، أو أرقاها، الدعاية غير المباشرة.

تعتقد أن بعض السلع لم تعد في حاجة إلى دعاية ما دمت تعرفها منذ نصف قرن. لكن «فيلسوف» الإعلان يبحث عن مستهلك جديد، يكسبه، أما أنت فلم يعد يهمه أمرك. ما هي القاعدة الأخرى في الدعاية؟ ألا تخدع. عند اكتشاف الخدعة، تنقلب الناس ضدك على نحو مخيف، كما انقلبت ضد كولومبوس وغوبلز، وزير هتلر، والإذاعات العربية التي تحولت من قمة إلى تهمة.