رضوان السيد

ما انقطع الجدال في مسائل الدين والدولة والشريعة في أوساط الدارسين العرب والمسلمين ثم الغربيين منذ ستينيات القرن الماضي، وكان الحزبيون الإسلاميون وأنصارهم بين الأكاديميين هم البارزين في النقاش. وقد مضوا من مكافحة التغريب والغزو الثقافي إلى القول بالتقابل بين فقه الشريعة والقوانين الوضعية، ومن الدولة الوطنية والمدنية إلى القول بالحاكمية. وفي السبعينيات وما بعدها صار مناط الشرعية في الدين والدولة عندهم العمل بأساليب مختلفة على تطبيق الشريعة.

أما اليساريون والعلمانيون الليبراليون فانصبّت جهودهم على مكافحة الموروث الديني الفقهي والكلامي باعتباره الحائل دون الدخول في عالم العصر. وأُحرج الإسلاميون بعض الشيء عندما انفجر الإسلام الجهادي في الثمانينيات والتسعينيات، ثم ما لبثوا أن اطمأنّوا إلى أنّ الجميع سيلجؤون إليهم وبخاصةٍ الغربيون، لأنهم لا يمارسون العنف، ويقولون بالتلاؤم بين القديم والحديث. وعندما هاجمت «القاعدة» الولايات المتحدة عام 2001 اندلعت الحرب العالمية على الإرهاب وما تزال، في حين ظلَّ اليساريون والقوميون العلمانيون حتى وقتٍ قصير مصرّين على الهجوم على الموروث والتقليد، باعتبار أن الأصوليين العنيفين يمثلونه، والمؤسسات الدينية لا تستطيع الخروج منه.

لقد أردْتُ من وراء هذا التمهيد الدخول على الجدال الذي تجدد في الأيام الأخيرة بشأن أطروحات الأستاذ وائل حلاّق وبخاصة في كتابه الأخير «الدولة المستحيلة» الصادر عام 2013. وحلاّق، إلى جانب الألماني هارالد موتسكي، هما أكبر الدارسين في الغرب المعاصر للفقه الإسلامي الكلاسيكي، وقد عمل حلاّق أكثر من موتسكي على تكون النظام الفقهي والنظريات الفقهية. ومضى قُدُماً في كتابه الكبير «الشريعة» (2011) لدراسة حركات التجديد الفقهي، والمحاولات الحثيثة للتلاؤم في الأزمنة الحديثة، لكنه في كتابيه الأخيرين (2011، 2013) بدأ يميل إلى إصدار تقييمات لأسباب فشل عمليات التلاؤم والتحديث، شأن نُقَّاد الخطاب الاستعماري، من العروي وإلى إدوارد سعيد، مع ما يخالط ذلك من أحكامٍ عامةٍ حول مشروع الدولة الغربية الحديثة من جهة، وإمكانيات استمرار الفقه الإسلامي من خلال التجديد التلاؤمي من جهة أخرى، فقال حلاق بأنّ المشروع الحداثي مُدان باللاأخلاقية والإطلاقية، أمّا التلاؤمية الإسلامية رغم جهودها الكبرى، فالفشل مكتوبٌ عليها، لأنها لا تستطيع إنجاز قطيعةٍ مع الماضي، وهكذا وقع وعبر معاناةٍ طويلةٍ في إحالتين متقابلتين: الإحالة على نيتشه (موت الإله) فقال بموت الشريعة، والإحالة من جهةٍ أُخرى على أخلاقيات الدين (كانط) باعتبارها الجانب الذي يمكن إنقاذُهُ، وقد قاده ذلك إلى اعتبار النظرية الأخلاقية الصوفية لطه عبدالرحمن هي مناطق الحلّ لاستنقاذ الإسلام.

لقد كان همي منذ حوالى العقد ونصف العقد منصباً على أربعة أُمور: الأول نقد أُطروحات اليسار الأكاديمي والشعبوي في ضرورة القطيعة مع التقليدين العقدي والفقهي. والثاني قراءة التقاليد الكلامية وسياسيات الفقه قراءةً نقديةً للفهم والاستيعاب والتجاوُز، والأمر الثالث هو الحملةُ على الانشقاقين: انشقاق الإسلام السياسي، والانشقاق المتفرّع عنه للإسلام الجهادي، وذلك من منطلقين: أنه لا علاقة لهما من جهة بالتقليد في الفقه والأُصول، وأنهما من جهةٍ أُخرى من نتاجات الحداثة والعولمة، ويقعان فيما وراء الـMain Stream ودخلنة القيم الكبرى للحضارة. أما الأمر الرابع فهو العمل المستقصي من جهة، والإبداعي من جهةٍ أُخرى على سرديةٍ تأويليةٍ جديدةٍ للإسلام تقع فيما بين بول ريكور وغادامر وتشارلز تايلور.

فتنتني أعمال وائل حلاّق وموتسكي حول كلاسيكيات الفقه، لكني شعرتُ بتصدُّع أُطروحة حلاّق في «الشريعة» (2011) عندما بدأ باختبارها في ظلّ الأزمنة الحديثة، ولذلك عندما صدر كتابه الآخر «الدولة المستحيلة» (2013)، وقد أصبح التصدع واضحاً (ولأسبابٍ أيديولوجية جلية)، عمدْتُ إلى كتابة مُراجعةٍ نقديةٍ طويلةٍ حول الكتاب تركتُها على موقعي وأتحتُها لعشرات الزملاء، وقد قال الزميل معتز الخطيب قبل أيام إنني قلتُ له إنّ أُطروحة حلاّق هي الوحيدة التي تُواجِهُ أطروحات «الإخوان المسلمين»، والذي أذكُرُهُ أنني قلتُ مراراً إنّ المقاربة الواسعة لطه عبد الرحمن هي التي تفعلُ ذلك أو تريده، لكنها تُعاني من فصامية هائلة مع علمانيات الحداثة والدولة الحديثة.

لدينا تحدياتٌ ثلاثةٌ اليوم هي: استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية، واجتراح علاقة أُخرى مع عالم العصر وعصر العالم، وهناك مقاربتان ممكنتان لمواجهة تلك التحديات: المقاربة الواقعية والعملية التي يقوم بها العلامة عبد الله بن بيّه وتلامذته -وأنا أحدهم- والمقاربة الاستراتيجية في المدى الطويل: السردية التأويلية التي يكونُ على جيلنا والجيل اللاحق القيامُ بها.