أحمد عسيري

ثنائيات شائكة في النسيج الثقافي العربي سجالها لم يتوقف في الفضاء الجدلي منذ حملة «نابليون»، وما سمي «عصر النهضة» حتى معطيات الراهن والمعاش، وظرفية الحاضر المتسائل عن مسارات المتحقق، ما بين الانتصار والانكسار، وسياق تشيؤ العقل العربي، المتأرجح بين ثنائيات الأضداد وتشابكاتها «المقدس والمدنس، التفكير والتكفير، التعبير والتبرير، الثواب والعقاب، التقليد والتجديد»، وقد طالت المنازلة والمواجهة بين هذه المحددات الكونية، والمفاهيم الملتبسة، والتوزع بين الصعود والركود، والراسخ والمتحرك، والسهل والمستعصي، والانعتاق والارتهان، كل هذه التشظيات المندلعة كألسنة اللهب، المرتطمة بسياج «الهوية» ووحدتها وخصوصيتها الأممية وحساسيتها التاريخية، تجعلنا نحس بثقل تلك المحمولات الفكرية، وارتباكها وعدم قدرتها المتنافرة على «ترصين» المشترك بين هذه الحقول، وزحزحة كوامنها، وكثافة غلالتها واحتداماتها المخبأة بين قلق الأسئلة وتشعبات المصير، وكأنها معلقة في أرجوحة التعاكس والنقيض، لقد كان الباحث «عبدالرزاق معروف» أكثر وضوحا وجرأة، وهو يخوض في جدلية الثنائية في الثقافة العربية، ومعاييرها العليا، مؤكدا أن أي مشروع ثقافي لا يأبه لهوية الأمة، أو يتلاعب بها من خلال التأويل الخادع، والتدجيل البارع، هو مشروع تخريب أو تغريب، وهوية الأمة -كما يقول- مرتبطة بضميرها الأخلاقي، ومسؤوليتها الإنسانية، ويقظتها الحرة أمام الله تعالى، محددا مظاهر «الثنائية» في الحضارة العربية بـ«الماضي والحاضر، السلف والخلف، الظاهر والباطن، الحضر والوبر، الطبع والصنعة، الثبات والنفي، المرئي والمتخيل، الثابت والمتحول»، مما أحدث خلخلة في الحياة العربية، بسبب سطوة تلك الثنائيات الضدية الحادة، المتصادمة حينا والمتصالحة حينا آخر، مما ولد جدلية السمو والتسفل، والسالب والموجب، وانشطار المثقف العربي تحت وطأة الثنائيات الأخرى «الجديد والقديم، عمران البشر وعمران الحجر، سيادة الموقف والتسييس المرجف، الانكفاء القطري والاحتفاء القومي، الفردانية الإبداعية والشللية الارتزاقية، القيم الجوهرية للإنسان والقيم الخلبية للغفلان، الحوار وعبودية القرار، فكر دائم الإبحار وفكر برسم الإيجار، الحداثة التجديدية والحداثة التدميرية، التوازنات العقلانية والشطحات الخرافية، التوفيقية والتلفيقية، التراث والمعاصرة». 
كل هذه الثنائيات الشبيهة بالبئر الطافحة بالخزين الذي لا ينتهي، تقودنا إلى البحث عن صيغة هادئة وصادقة ومنفتحة، تحتم قراءة «الحال» بما يليق بروح العصر، ولحظته التاريخية، والالتحام به بالصيغ والكيفيات التي تستجيب لهويتنا ووحدتها، وتحرير إرادتها، فقد أطلنا الوقوف أمام بوابات هذه الثنائيات أكثر مما يجب.