هند عبدالحليم محفوظ 

مصطفى لغتيري قاص وروائي وناقد مغربي. ثمة سمة كوزموبوليتية تميز معظم أعماله وتقيم حواراً بين الثقافة المغربية والثقافات العالمية، ضمن أجواء مليئة بالتشويق وعلى إيقاع أحداث متسارعة من دون فواصل. من أعماله «الأطلسي التائه»، «تراتيل أمازيغية»، «حب وبرتقال»، «ليلة أفريقية»، «أحلام النوارس»، وله رواية بوليسية بعنوان «زنبقة المحيط».

هنا حوار معه:

> «ضجيج الرغبة» هو عنوان روايتك الجديدة... العنوان إشكالي وصادم، فهل للرغبة ضجيج؟

- وهل هناك ضجيج أقوى من ضجيج الرغبة، حين تصرخ في أعماق الكائن وتدفعه إلى اتخاذ قرارات، قد تبدو مجنونة وغير منطقية في ظروف مختلفة، كما حدث لبطل الرواية ذاتها؟ في هذه الرواية، حاولت ملامسة العلاقة العاطفية من أركانها الأساسية. طبعاً، يبقى الحب كعاطفة نبيلة ركنها الأساسي، لكن الرغبة الجنسية تظل حاضرة بقوة، فعلى رغم شيطنتها من قبل مجتمعاتنا المحافظة، فإنها تبقى محركاً لكثير من الأفعال وردود الأفعال التي نقوم بها، وأظن أنه قد حان الوقت للاعتراف بها كجزء من وجودنا الفعلي والرمزي، بعيداً من الطهرانية الفارغة. أذكر في هذا الصدد قول المحلل النفسي سيغموند فرويد الذي اعتبر فيه طاقة اللبيدو محركاً للحضارة الإنسانية. وهكذا فسيلمس القارئ حضوراً قوياً لهذا المعطى، إضافة إلى أبعاد أخرى كالمحدد الاجتماعي، بخاصة لفئة من الناس تعيش في الغربة، وتجد نفسها ممزقة في هويتها، بين بعدين على طرفي نقيض، فتتجاذبها نتيجة لذلك تيارات محافظة وأخرى حداثية، ليجد الفرد نفسه مطحوناً داخل آلة لا ترحم، تلقي به في غياهب الصراع النفسي المحتدم. فالشخصية في الرواية التي زوجت في شكل تقليدي بضغط من أسرتها طمعاً في مستقبل أفضل في بلاد المهجر، سرعان ما ستجد نفسها تهفو إلى الحب الذي ستدفع ثمناً كبيراً من أجل الظفر به والاستمتاع بالعيش في كنفه.

> الرواية تتناول قصة حب تنشأ في الواقع الافتراضي، فهل يمكن تصنيفها ضمن ما يسمى الأدب الرقمي؟

- للأدب الرقمي خصائصه، ومنها طابعه التفاعلي، وتوظيفه الأيقونات التعبيرية والصور والروابط، وما إلى ذلك مما تحبل به المواقع الاجتماعية والشبكة العنكبوتية عموماً. لذا، لا يمكنني أن أزعم أن رواية «ضجيج الرغبة» تنتمي إلى الأدب الرقمي. لكن، في المقابل يمكن أن أقول أنها تنتمي إلى العصر الرقمي، بل وتعتبر إحدى ثماره، فالرواية استلهمت الطرق الرقمية الجديدة في التواصل، وأصغت بكثير من الاهتمام إلى نبض العشاق في الشبكات الاجتماعية. لم يعد الواقع مرجعاً للعلاقات بين الناس، بل أصبحت تنسج افتراضياً، ثم ما تلبث أن تلبس مسوح الواقع. الرواية استثمرت هذا المعطى وجعلته أساساً لبنائها التخييلي.

> الرواية تصور مدينة مارسيليا على أنها مدينة كوزموبوليتانية بامتياز، حيث تعج بأعراق وجنسيات مختلفة... لماذا افتقدت المدن العربية هذا التنوع؟

- في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، كانت المدن العربية تخطو بثبات نحو العالمية، فمن منا لا يذكر بهاء بيروت والقاهرة وبغداد والدار البيضاء وغيرها. كانت مدناً تبعث على الأمل. تضج بالحياة وتشرئب بأعناقها نحو المستقبل بثبات. هناك حركة مسرحية وغنائية دائبة وفعالة، ودور السينما ممتلئة عن آخرها، والحركات الشبابية التي كانت الفتاة العربية فاعلة فيها، قوية وواعدة. لكن، للأسف حدثت ردة حضارية قوية جعلت هذه المدن تنكس إلى الخلف. فبيروت دمرتها الحرب الأهلية، وبغداد نالت ما لا تستحق من عقاب، والقاهرة توارت خجلة بعد الفورة الثقافية السينمائية والفنية التي عرفتها، بخاصة في ما يتعلق بالأصوات العربية التي وجدت فيها حضناً دافئاً.

في مارسيليا، رغم بعض الأصوات النشاز من اليمين المتطرف، نجد مثالاً لتلاقح الشعوب والأعراق والأحلام والتطلعات. الانغلاق لن يؤدي سوى إلى التخلف والعزلة المقيتة والانكماش.

> روايتك «الأطلسي التائه» تتناول حياة الصوفي المغربي أبي يعزى الهسكوري. لماذا اخترت هذه الشخصية رغم شهرتها المحدودة بين أقطاب الصوفية؟

- استثماري شخصيةَ أبي يعزى الهسكوري في رواية الأطلسي التائه، حكمته أسباب متعددة منها ما فكرت فيه قبل كتابة الرواية، ومنها ما تناسل في الذهن خلال كتابتها، ومنها ما انتبهت إليه بعد الانتهاء من الكتابة. في البداية، كنت أطلع على بعض الكتب حول المتصوفة المغاربة، فأثارت انتباهي شخصية أبي يعزى الهسكوري الذي خصص له كتاب «الأولياء الصالحين في المغرب» صفحتين تقريباً. أهم ما شد انتباهي أن الرجل كان نباتياً في القرن 12 الميلادي، بمعنى أنه كان له موقف إيجابي من الحيوان، وهذا أمر غير مألوف، كما أن هناك أمراً آخر ويتمثل في أن أبا يعزى رجل أسود وأمازيغي اللسان، ومع ذلك بجَّلته العامة ورفعته إلى مقام غير متاح إلا لقلة القلة، بإطلاق عليه لقب «مولاي». لقب مولاي كان ولا يزال محط كثير من التشدد، فلا يطلق في المغرب إلا على ذوي الأصل «الشريف»، بخاصة أولئك الذين يتحدرون من السلالة النبوية أو على الأقل من شبه الجزيرة العربية. في لحظتنا المرتبكة هذه، والتي نعاني فيها من التطرف الديني، ما أحوجنا إلى نموذج للتسامح. الهسكوري تتلمذ على أكثر من أربعين فقيهاً، وكان عاشقاً الذات الإلهية بإخلاص وتفانٍ، لكنه أبداً لم يتدخل في شؤون الآخرين المختلفين عنه في طريقة الإيمان. كان يلتمس لهم الأعذار، وبدل أن يلومهم، كان يوجه اللوم إلى نفسه. كان يحب الموسيقى، ويعشق في صمت. كان مواسياً للناس، في وقت كانوا في أشد الحاجة إلى المواساة.

> في روايتك «تراتيل أمازيغية»، تنقب عن حضارة مغربية عريقة قبل دخول الإسلام المغرب... فهل الرواية تمجد النزعة القومية؟

- يتميز المغرب بتعدد مكوناته الثقافية والعرقية. فإلى جانب المكون العربي هناك المكون الأمازيغي والأفريقي والأندلسي والصحراوي، أجد نفسي معنياً بهذا التعدد لأنه يشكل غنى ثقافياً لوطني ومن المجحف عدم إبرازه. قاربتُ مثلاً البعد الأفريقي للهوية المغربية في رواية «ليلة أفريقية»، وخصصتُ «تراتيل أمازيغية» للبعد الأمازيغي من خلال النبش عميقاً في تاريخ المغرب، وتخيل مملكة أمازيغية انخرطت في حرب استنزاف ضد الإمبراطورية الرومانية التي كانت تحتل الثغور المغربية، وتوغلت داخل البلد كما يدل بعض الآثار. ولا أخفي أنني معجب باعتزاز المصريين بالتاريخ الفرعوني والعراقيين بتاريخ السومريين والبابليين، فلم لا نعتز - نحن المغاربة - كذلك بتاريخنا القديم الذي يدل على أن أرض المغرب كانت موطناً لحضارة تضرب جذورها في أعماق التاريخ؟ لا علاقة لذلك بأي نزعة قومية، بل هو انتصار للوطن. أؤمن بأن كثيراً من مآسينا ناتج من عدم اعترافنا باختلافنا وتنوعنا.

> أنت منحاز إلى المرأة في كتاباتك، بخاصة «امرأة تخشى الحب»، و «حب وبرتقال»، ما يعد سباحة ضد التيار، فهل أنت ضد الثقافة الذكورية؟

- للمرأة وجودها الخاص والفاعل في المجتمع. ارتبطت حياتي بالمرأة منذ نعومة أظافري، ممثلة في أمي التي كانت تعمل، لتعيل الأسرة. السيرة الروائية «حب وبرتقال» خصصتها لذكرياتي مع أمي خلال الطفولة. للأسف حين نضج وعيي، عرفت أن المرأة عموماً مقهورة، وأنها تعاني في صمت من التهميش والعنف والجهل والفقر، فكان أن انحزت إليها مدافعاً عنها. وربما تسرب هذا الانحياز للمرأة إلى باقي كتاباتي، فقد جاء في رواية «الأطلسي التائه» كلام على لسان أبي يعزى الهسكوري وهو يتحدث عن أمه، مفاده أنه لو ملكت أمه السلطة والمال لأطعمت كل جائع وكست كل عار وآوت كل ابن سبيل، أما لو ملكها أبوه لأشعل الحروب في كل مكان.

> تتمنى لو يحكم النساء العالم... برأيك متى ستتولى المرأة مقاليد الحكم في عالمنا العربي؟

- أعتقد أننا كنا في الوطن العربي قاب قوسين أو أدنى من حصول ذلك، لكن للأسف وقعت ردة حضارية كبيرة جعلتنا نتقهقر إلى الخلف، ويبدو أن المرأة العربية أكثر تضرراً من هذه الانتكاسة، ويكفي أن نذكر ما يسمى بـ «جهاد النكاح» لنعرف حجم المأساة. مع ذلك سنظل متشبثين بالأمل، فهناك مساحات ضوء لا يمكن نكرانها.

> ما وقع الزمن على ذاتك وكتاباتك؟

- الزمن هو أعمق ناقد ومنقح، إنه المعلم الأكبر الذي يشعرنا رغماً عنا بالتواضع. الزمن ينضج تجربتنا في الحياة ويعمق رؤيانا تجاه العالم من حولنا، ويشحذ إحساسنا بذواتنا، كما أنه يجعلنا نكسب مسافة معقولة بيننا وبين ما كتبناه، فنرى عيوبه وثغراته فنسعى إلى تجاوزها في ما نكتبه لاحقاً.

> لماذا تعارض الكتابة الذاتية القائمة على البوح؟

- بصراحة أعتبر أن الكتّاب ينقسمون إلى فسطاطين كبيرين، الفسطاط الأول يعتمد البوح والتداعيات كطريقة في الكتابة، والفسطاط الثاني يعتبر الكتابة خلقاً وصنعة، وأنا أميل إلى الفسطاط الثاني، لأن الكتابة بالنسبة لي جهد متواصل، وعمل عقلاني منظم ولا يأتي أبداً عفو الخاطر. الكتابة مهنة نتقنها بالممارسة والإلحاح والتنقيح وليس بالبوح التلقائي.

> أنت كاتب غزير الإنتاج... هل الإبداع قرين الغزارة؟

- أعتقد أن مقياس الغزارة نسبي جداً، فهناك كتّاب حققوا الجودة من خلال غزارة الإنتاج كنجيب محفوظ مثلاً، وهناك آخرون حققوها من خلال نص أو نصين فقط. المشكل ليس في غزارة الإنتاج من عدمها، بل في تحقيق جودة الإبداع. وأظن أن الغزارة ستكون عيباً إذا كرَّر الكاتب نفسه، وهذا ما أحاول تجنبه.

> كيف ترى الصخب الروائي الحاصل الآن؟

- بصراحة، أعتبر الموجة الروائية العربية الحديثة إيجابية، فهذه الغزارة في الإنتاج لا بد أن تسفر في نهاية المطاف عن شيء مميز، وقد ظهرت علامات ذلك جلية منذ الآن، لقد أصبحت لنا نصوص روائية عربية عالمية، يحق لنا أن نفخر بها.