عبد الوهاب بدرخان

 تكمن أهمية التغيير الذي شهدته المملكة العربية السعودية في خمسة عناصر. أولها الأسلوب السلس، إذ ثبت مرّة جديدة أن مؤسستي الأسرة والحكم منضبطتان وفقاً لبوصلة الاستمرارية والاستقرار. والثاني أن مشهد المبايعة للأمير محمد بن سلمان، وليّاً للعهد، كان تأكيداً للعلاقة الخاصة التي تربط بين السعوديين بدولتهم، وبرهاناً على الثقة الثابتة بينهما. والثالث أنه يدشّن الانتقال من جيل أبناء الملك المؤسس إلى جيل أبناء الأبناء. والرابع أن عملية دفع الشباب إلى سدّة المسؤولية هي أهم استثمار بشري يفتح المملكة على مرحلة جديدة في تاريخها. والخامس أن هذا التغيير يتزامن مع استحقاقات داخلية ملحّة، وفي ظروف إقليمية ودولية تتطلّب مبادرات استراتيجية واضحة.

أما الأسلوب، فتميّز بمراعاة الأصول التي نصّ عليها النظام الأساسي للحكم، والتزام إرادة هيئة البيعة، حيث يسود عادةً حسّ المصلحة العليا للبلاد، ثم يتبلور في تفاهم وتوافق، وحين يتوفّران بالنسبة القصوى التي لا تحتمل التأويل، يعتبر صاحب الشأن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أن الوقت حان لاتخاذ القرار. ومعروف أنه كان للعاهل السعودي دائماً دورٌ مركزي في السهر على حاضر الأسرة المالكة وتاريخها، وعلى مسار الحكم، أياً كان موقعه. لذلك جاء التغيير بالسيناريو السعودي المتوقّع والمألوف، خلافاً لكثير من التكهّنات التي حفل بها الإعلام الغربي الذي يستقرأ الظواهر، ولا يأخذ في اعتباره الخصوصية السعودية، كونه لا يستطيع فهمها أو إخضاعها لمعاييره.

كما في المرّات السابقة، لا تتمثّل هذه الخصوصية بتوافق أهل الحكم أو أعضاء هيئة البيعة فحسب، بل لا تلبث أن تمتد إلى فئات الشعب عامة من خلال المبايعة العلنية التي تؤمّن التواصل المباشر بين الحاكم والمحكوم، وتُعتبر فرصة للتواثق والتعاضد. لكن التغيير كان هذا المرّة استثنائياً ومختلفاً، فمنذ أعوام والمجتمع بل المنطقة العربية والعالم يترقّب الانتقال الذي لا بد منه من جيل إلى جيل. هنا أيضاً ذهبت التوقّعات الخارجية، الغربية تحديداً، وبدوافع متفاوتة، إلى سيناريوهات، معظمها سلبي، يراوح بين التأزيم والاستعصاء، خصوصاً بعدما غيّب الموت في غضون عشرة أعوام عاهلَين ووليَّين للعهد كان لكلٍّ منهم تاريخه الطويل في معترك الدولة وتطويرها كما في إدارة علاقاتها مع العالم، بما فيه العالمان العربي والإسلامي.

لعل هذا الواقع هو ما حتّم الالتفات إلى الجيل التالي، بل إنه رتّب بشيء من المنطق والتلقائية، دفْع الشباب إلى الواجهة، ولم تعد هناك أي اعتبارات قادرة على منع أو تأخير هذه السنّة الطبيعية. لكن حتى هذا التدافع للأجيال، كان يحتاج إلى رعاية وهدوء وحكمة. صعود الأمير محمد بن سلمان، يعززه حضوره الطويل إلى جانب الوالد في إمارة الرياض ثم وزارة الدفاع، ما وضعه على تماس مع الملفات، أكبرها وأصغرها، كما ساعده على استيعاب المعضلات وتفاصيلها عن كثب، لتختمر في داخله صورة متكاملة عن الإصلاحات الملحّة، وليصل أخيراً مع والده الملك إلى قدر المسؤولية والواجب. تلك كانت فرصٌ وتجارب غير مسبوقة، ولم تُتح لأي أمير آخر: أن يتشرّب أصول الحكم، وأن يتلقّى هذا النوع من التدريب المباشر وغير المخطّط له مسبقاً. وخلال العامين ونصف العام كوليّ لوليّ العهد، أمكن الأمير محمد أن يضع كل ما اكتسبه في التعامل مع الخبراء لإعداد «رؤية 2030» الطموحة كما في بناء سياسة خارجية نجحت أخيراً في تجديد العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

كثيرون في السعودية وخارجها استهجنوا أو استبعدوا رؤية شاب في الثلاثين في أعلى المناصب بعد الملك، لكن هذا أصبح حقيقةً وواقعاً. والمرحلة الجديدة في تاريخ المملكة لا تتسم فقط بتقدّم الطواقم الشابة لتولّي المسؤولية، بل خصوصاً بضخامة التحدّيات الداخلية والخارجية. لا شك أن مراكمة الخبرة في التصدّي للإرهاب حدّت من المخاطر وباتت استباقية، أما ورشة تطوير الاقتصاد بمختلف قطاعاته، فستكون لها مساهمة كبرى في مؤازرة الجهد السياسي والأمني لمكافحة الغلو والتطرّف. أما التحدّيات الخارجية متمثّلة راهناً بتدخّلات إيران وذيولها في اليمن وغيره، فلا يمكن ترويضها وتحجيم تهديداتها إلا بتفعيل مكانة المملكة ودورها القيادي، بدءاً بالمحافظة على مجلس التعاون الخليجي وحصانة دوله وشعوبه، وامتداداً إلى المساهمة الفاعلة في دعم الدول العربية لاستعادة عافيتها واستقرارها.