بكر عويضة

السبت الماضي، تحت عنوان أشار إلى الفَخار بشقيقته أتاليا، لقضائها مائة وعشرة أيام في سجن حربي، نشر موقع «إندبندنت» البريطانية، مقالاً كتبه أميتاي بن آبا، الناشط ضمن مؤسسات حقوق إنسان إسرائيلية. أتاليا سُجِنت لأنها رفضت تأدية الخدمة العسكرية.

ما هذه أول حالة من نوعها في إسرائيل، والأغلب أنها ليست الأخيرة. لقد فَزَعَ ذوو ضمير إسرائيليون، في حالات عدة، إزاء ما تعرض له الفلسطينيون من ظلم مُفزع منذ ما قبل نشوء إسرائيل، ثم بعده، وحتى وصولها لوضع أقوى دول المنطقة تقنياً، استخباراتياً، معلوماتياً، وبالتالي عسكرياً. وقد عبّر أولئك عن فزعهم بصوّر شتى، بدءاً من اعتلاء منابر القضاء، مثل المحامية القديرة فيلتسيا لانغر، وصولاً إلى التعرض لمضايقات الأجهزة الأمنية، والحكومات المتعاقبة، باختلاف تركيباتها السياسية. المؤسف هو أن العقول المسيّرة لمؤسسات الحكم التقليدية في إسرائيل، أيضاً بمختلف مشاربها، يميناً ويساراً ووسطاً، تواصل معاندة منطق العقل بإصرارها على تجاهل حقائق واقع قائم على الأرض، كأنما إغماض العينين يكفي لإلغاء الوقائع، وإعادة تشكيل الصورة كما تشتهي الأنفس.

ميري ريجيف، وزيرة الثقافة في حكومة بنيامين نتنياهو، تصلح مِثالاً لتحجّر عقلية تنهل من نبع العنصرية. تلك العقلية تظن أن عنصريتها تصب في صالح حاضر ومستقبل دولة أسست وفق أساس ديني، لكنها ترفض الاعتراف بأنها تصّر على سجن ذاتها في زنزانة أوهامها. ألم يحِن لهؤلاء الناس أن يدركوا كم تغيّر العالم؟ قبل أسبوعين رفضت ميرا عوض، الفنانة الفلسطينية - الإسرائيلية، الانصياع لطلب الوزيرة ميري ريجيف، عدم إلقاء قصيدة محمود درويش «فكّر بغيرك». ذلك الموقف من جانب الوزيرة لم يكن سوى حبة جديدة تضاف إلى مسبحة مواقف متعصبة، يبدو أن ميري ريجيف تبتهج كلما أضافت إليها جديداً. لماذا تخاف حضرتها، أو قل العقلية ذاتها، قصيدة؟ الأغلب لأن المنهج ذاته يقوم على الخوف من الآخر. منهج العنصرية. وعندما يستحكم خوفٌ مما يمثله الغير بعقل تيار أو طرف ما، يصير هوّ المنهاج، ومعيار قياس المواقف، وربما اتخاذ القرار. قبل بضعة أسابيع تناول برنامج «نيوزنايت» على شاشة «بي بي سي2» كيف يتصدى ممثلون وممثلات في إسرائيل لقوانين رقابة صارمة تفرضها الوزيرة ريجيف، إزاء أي عمل فني يتعاطى مع معاناة الفلسطينيين. يخبرني صديق أن ريجيف ذاتها، حرصت في مناسبة ما على ارتداء قفطان طويل تضمن الجزء الأسفل منه رسماً لإحدى تلال القدس وقُبة المسجد الأقصى. لماذا؟ أي نفع تجنيه إسرائيل من هكذا تصرف يدل على احتقار هوّية الطرف الآخر وعقيدته؟

لكن، هل ثمة فائدة من طرح السؤال في حد ذاته؟ إذا قُدِّر لهكذا عقلية أن تظل هي السائدة في اتخاذ القرار الإسرائيلي، فالأرجح أن احتمال السلام العادل سوف يظل يتلاشى خلف ظلال تطرف لن يلد سوى التطرف. المفارقة أن جيل ميري ريجيف (مواليد 1965) يُفترض أن يكون الأحرص على تحقيق سلام عادل مع الفلسطينيين، لأنه جيل عانى ويلات حروب أكثر من معاناة آبائهم المؤسسين. المؤسف، مرة ثانية، أن أقلية فقط بين هذا الجيل، مثل أتاليا بن آبا وشقيقها أميتاي، تقف في مواجهة مد عنصري يزحف باستشراء وسط شباب إسرائيل.
مع ذلك، يصعب القول إن الأمر جديد. لن أعود إلى عقود مضت. خلال العقد الماضي فقط، صَدَع عدد بين كبريات صحف العالم ومجلاته، بتحذير أوساط الحكم في إسرائيل من نتائج تحكم منهج التطرف العنصري بالقرار السياسي، أو العسكري. بين تلك الصرخات، سأظل أتذكر عنوان غلافٍ لمجلة «تايم» الأميركية كان مضمونه: الكراهية تلد كراهية. في عددها بتاريخ (20/5/2017) وضعت «إيكونومست» البريطانية على غلافها عنواناً تساءل: (لماذا تحتاج إسرائيل دولة فلسطينية؟). توسط العنوان رسماً للنجمة السداسية يمسك بها قفل بألوان العلم الفلسطيني، أما افتتاحيتها فخُتمت بالآتي: (إسرائيل أقوى من تهديد أي دولة فلسطينية لها. في الواقع هكذا دولة ضرورة قصوى لمستقبلها. فقط، عندما تولد دولة فلسطين، تكون إسرائيل أكملت انتصار 1967). هل يمكن اتهام مجلتي «تايم» و«إيكونومست» بعداء إسرائيل أو معاداة السامية؟ مستحيل، بالطبع. هل يمكن الأمل أن تستمع عقول إسرائيل لصوت العقل؟ يجب تقديم التفاؤل على التشاؤم، مهما تلبدت غيوم الشك.