جمال عبد الناصر 

لقد عرف التاريخ رجالاً وُصِفوا بحُسْن الخُلُق، وحُسْن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، وعُرفوا كذلك بالنبل والشهامة وعدم نقض العهود والمواثيق، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين.

وهذا ما لا تستطيع كل أُمَّة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتَّصِفَ به لأن رؤية الدم تُثِيرُ الدم، والعداء يؤجِّج نيرانَ الحقدِ والغضب، ونشوة النصر تُسْكِرُ المحاربين؛ فتوقعهم في أبشع أنواع التشفِّي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها، بل هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

ومن هنا فتحية إلى القادة العظام الذين سطروا للإنسانية قيمًا ومبادئَ حتى في تعاملهم مع أعدائهم! وكيف تبدى في تاريخهم احترام الإنسان حتى لو كان عدوا محاربا؛ وهكذا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا الإسلامية؛ عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين؛ إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشدِّ المعارك احتدامًا، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء.

فإذا كان السِّلم هو الأصل في الإسلام، وإذا كانت الحرب في الإسلام قد شُرِعَتِ لأسباب وأهداف محددة؛ فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحدُّ ممَّا يُصَاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تُسَيِّرُهَا الشهوات، كما جعلها ضدَّ الطغاة والمعتدين لا ضدَّ البرآء والمسالمين، وتتمثَّل أبرز هذه القيود الأخلاقية فيما يلي:

أولا: عدم قتل النساء والشيوخ والأطفال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى؛ ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يأمرهم بتجنُّب قتل الولدان؛ فيروي بُرَيْدَةُ رضي الله عنه فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وكان مما يقوله: "...وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا..." [رواه مسلم: كتاب الجهاد والسير]، وفي رواية أبي داود: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَةً..." [رواه أبو داود: كتاب الجهاد، باب في دعاء العدو].

ثانيا: عدم الاعتداء على النساك والعُبَّاد: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه يقول لهم: "لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ"، وكانت وصيته صلى الله عليه وسلم للجيش المتجه إلى مؤتة: "اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُـمَثِّلوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ" [رواه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث].

ثالثا: عدم الغدر: حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يوَدِّع السرايا موصِيًا إياهم: "...وَلاَ تَغْدِرُوا..."[مسلم: كتاب الجهاد والسير]. ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدوٍّ يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبرَّأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافرًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا"[البخاري في التاريخ الكبير: 3/322].

وقد ترسَّخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه في ولايته أنَّ أحد المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ. ثم قتله، فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: "إنه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْـجَ (الكافر)، حتى إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع، يقول له: "لا تَخَف". فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده! لا يبلغنِّي أن أحدًا فعل ذلك إلاَّ قطعتُ عنقه"[ الموطأ برقم (967)].

هذه أخلاق الفاتحين العظام، أين هي مما يحدث الآن بأيدي أعداء المسلمين وعملائهم من المرتزقة، فعلى كل عاقل أن يمعن القراءة في تاريخ المسلمين كي يتعرف على حقيقة هذا الدين وجوهره، ويتعرف أخلاق من حملوه إلى العالم فلا يخضع بذلك لحملات التشويه التي تُشن ليل نهار من قبل من لا دين لهم ولا خلاق تبتغي اقتلاع هذا الدين من جذوره وتشويه رموزه ونسبة كل سيئ له وصدق ربنا حيث قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً...} [النساء: 89]، وقال ربنا سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].