هشام محمود

هل يمكن تخيل اختفاء التعامل المباشر بالنقود يوما ما؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك قريبا؟ وإذا ما حدث فما البديل النقدي المباشر للنقود؟ لا تعد تلك الأسئلة نوعا من التكهنات أو من قبيل الخيال أو الشطحات الفكرية، وإنما أسئلة يطرحها عدد من كبار الاقتصاديين حول مستقبل الاقتصاد العالمي، ويوصي بعض المختصون حكوماتهم حاليا بالعمل من الآن استعدادا ليوم تختفي فيه العملات النقدية من التداول اليومي.


فعبر التاريخ الإنساني استخدم البشر عديدا من الأشياء كوسيط للتبادل في الأسواق، لكن المقايضة لم تكن دائما عملية بسيطة أو سهلة، وأول من صك العملة قبل نحو 2600 عام كانت مملكة ليديا التي تقع غرب تركيا الآن بخليط من الذهب والفضة.
ومنذ ذلك اليوم والبشرية في سعي دائم لتحسين العملة. لكن السؤال الآن: هل ستواصل البشرية مساعيها لتحسين العملة، أم أنها ستتخلى عنها نهائيا لتبحث عن وسيلة أخرى للتبادل أكثر سرعة وأيسر؟
فتقرير المراجعة الحكومية لممارسات التوظيف في بريطانيا يدعو صراحة إلى الاستعداد في غضون سنوات قليلة إلى الانتقال لاقتصاد أقل استخداما للنقود، ويبرر التقرير تلك الخطوة بأن إلغاء التعاملات النقدية سيمكن الحكومة البريطانية من جباية الضرائب على أنشطة اقتصادية مشروعة، تقدر قيمتها النقدية بنحو ستة مليارات جنيه استرليني، ولكنها لا تسجل في الحسابات الضريبية، لأن المتعاملين بها يقومون بالدفع نقدا بدلا من استخدام بطاقات الائتمان المصرفي، التي تمكن الجهات الرسمية من رصد التحويلات المالية ومن ثم جباية الضرائب.
ولكن هل يعني ذلك أن الاقتصاد العالمي يتحرك في اتجاه أقل استخداما للنقود بشكل مباشر؟ وهل يصب ذلك في مصلحة الجميع؟
ويعتقد الدكتور بيل باكستر؛ أستاذ النقود والمصارف، أن الاتجاه العام في الاقتصاد العالمي خاصة الاقتصادات المتقدمة هو التخلي عن النقود لمصلحة التعامل ببطاقات الائتمان المصرفي.
وقال لـ"الاقتصادية"، إن النقود على الرغم من أنها وسيط للتبادل إلا أنها سلعة أيضا، وكجميع السلع تختفي أو يتقلص وجودها في الأسواق بتقلص الطلب عليها، وبالطبع سيكون الاقتصاد في حاجة دائمة لوسيط للتبادل، ولكن استخدام النقود لتلبية احتياجات التبادل سيتراجع بشدة في الاقتصاد العالمي لمصلحة وسائل أخرى لتسوية المعاملات؛ بعضها سيتجاوز حتى بطاقات الائتمان المصرفي؛ وسيكون أبرزها التحويل المالي عبر تطبيقات الهواتف الذكية أو عن طريق بعض المواقع المتخصصة في ضمان سداد المستحقات المتوافرة على الشبكة العنكبوتية.
ويضيف "في كينيا على سبيل المثال ثلثا اليافعين يجرون معاملاتهم المالية الآن عبر تطبيقات على الهواتف المحمولة".
وحول الفترة الزمنية اللازمة لأن يصبح ذلك هو النموذج السائد للتعامل المالي في الاقتصاد العالمي، يؤكد الدكتور بيل أنه يصعب تحديد تاريخ محدد لذلك، لكن في منتصف القرن الحالي سيكون حمل الأشخاص عملات نقدية أو ورقية أو حتى بطاقات ائتمان أمرا نادر الحدوث.
لكن بعض المختصين يحذرون من خطورة تلك الخطوة وتأثيرها السلبي في الفقراء، خاصة في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.
تعتقد الدكتورة زي ألفريد؛ أستاذة التنمية الاقتصادية، أن التخلي عن النقود التقليدية لن يصب في مصلحة الفقراء.
وتشير لـ"الاقتصادية" إلى أن جزءا كبيرا من النشاط الاقتصادي في البلدان النامية تحديدا يتم عبر الدفع النقدي المباشر، سواء كان الأمر متعلقا بالاقتصاد الرسمي أو الاقتصاد الموازي، ويتم ذلك بشكل رئيس في الأنشطة الهامشية، على سبيل المثال جامعو القمامة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند، أغلب العاملين في ذلك النشاط ليس لديهم حسابات مصرفية، وقدرتهم على التعامل مع تطبيقات الهواتف المحمولة في الجانب المالي ضعيفة للغاية، ولذلك يظل التعامل النقدي هو الأكثر أمانا لضمان الحفاظ على مصالح تلك الطبقات الهامشية.
وتتابع "في عام 2015 أشارت بعض التقارير الدولية إلى أن 15 في المائة من البالغين حول العالم يستخدمون حساباتهم المصرفية لإجراء تحويلات مالية. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة تتعاون مع 50 شركة مالية ومؤسسة وحكومة، من بينها الحكومة الهندية، بهدف تسريع تخلي الاقتصاد العالمي عن النقود لمصلحة المدفوعات الإلكترونية، بدعوى أن ذلك يؤدي إلى تقليص الفقر ويعزز النمو إلا أن ذلك لم يحدث".
لكن بعض المختصين يعتقدون أن الحديث عن اتجاه عالمي في هذا السياق يتضمن قدرا كبيرا من المبالغة والتصورات غير الواقعية، التي لا تستند إلى أسس اقتصادية حقيقية. المختص المصرفي نيل أندروا يربط التحول إلى الاقتصاد الأقل استخداما للنقود بدرجة التنمية العامة، وتحديدا بقدرة النظام المصرفي على التعامل مع أنماط سداد المعاملات النقدية بالأساليب الحديثة.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن الانتقال من الاقتصاد الذي يعتمد في تعاملاته على النقود إلى استخدام الأنماط غير النقدية المباشرة سواء عبر بطاقات الائتمان أو تطبيقات الهواتف الذكية، يرتبط بدرجة نمو النظام المصرفي، ودرجة نمو النظام المصرفي تعتمد بدورها على حداثة الاقتصاد محل التحليل، ولهذا لا يمكن وضع قاعدة دولية موحدة بشأن التحول من الاقتصاد النقدي المباشر إلى الاقتصاد الذي يعتمد على وسائل سداد حديثة غير نقدية، ومن المنطقي بالطبع أن يحدث تحول الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصاد غير النقدي في تعاملاته الداخلية والدولية. ويضيف "حتى في الأسواق الصاعدة أو الناشئة سنشهد درجات متفاوتة من البعد عن استخدام النقود، فأغلب القطاعات الإنتاجية التي ترتبط بالشرائح العليا في المجتمع، أو ترتبط بعلاقات اقتصادية دولية مع الاقتصادات عالية التطور ستكون أكثر جاذبية للتخلي عن النقود لمصلحة وسائل السداد الحديثة".