سطام المقرن

لا يقبل المسلمون بأطروحات المجتمع المدني الحديث كنظريات وأفكار، إلا ربما تحت إطار «الإسلام المدني» الذي يعتمد على أسس ومبادئ منها مبدأ الحرية

يتصور معظم الناس في المجتمعات الإسلامية بأن العلمانية تعني إبعاد الدين عن الحياة أو إقامة الحياة على غير الدين، ومن آثارها إبعاد الناس عن الحياة الإسلامية واستثناء النهج الإسلامي ذي التوجه الرباني من الوصول للحكم، بل ومحاربته والتنكيل بأنصاره، واتهامهم بالتطرف والإرهاب، بالإضافة إلى انتشار ثقافة التحلل والتفسُّخ والشهوة وكثرة الفساد الأخلاقي، وتحرير المرأة وتحللها من كل القيود التي تعصمها وتحفظ كرامتها، وانتشار الخيانات الزوجية وكثرة أبناء الزنا!.
وبناءً على ما سبق، استطاع الإسلام السياسي وبعض رجال الدين طبع تلك الصورة في أذهان المسلمين، وعند السؤال عن نجاح العلمانية في الغرب، قالوا لهم قد تكون مشروعة وصحيحة بالنسبة إلى المجتمعات الغربية التي تدين بالمسيحية، لأن المسيحية في الأساس تفصل بين الدين والدنيا، غير أنها ديانة محرّفة وغارقة في الجهالة، وفي أوروبا ثار الناس على الكنيسة بسبب فسادها وظلمها ونشرها الخرافة والوهم، ومحاربتها العلم والعلماء، وأما بالنسبة إلى الإسلام فلا تصح العلمانية، لأن الإسلام دين شامل وكامل يستوعب في مضامينه وتعاليمه أمور الدنيا والآخرة، وجميع الناس أتباع ما أنزله الله تعالى في جميع المجالات، كالاقتصاد والسياسة والقضاء، وما إلى ذلك من أمور تمس واقعهم واحتياجاتهم من أحكام شرعية ودينية.
ونتيجة لاختلاط المفاهيم والمعاني حول العلمانية عطلت قوانين كثيرة كان الناس بحاجة ماسة إليها، مما سبب فراغا قانونيا في كثير من الدول الإسلامية والعربية، وبسببها أيضا فشلت كثير من الجهود والمشاريع والبرامج الإصلاحية الاقتصادية والاجتماعية، في الوقت الذي يسعى العالم فيه إلى إيجاد وابتكار حلول للمشاكل التي تواجهها مجتمعاته اليوم، من خلال سن القوانين والأنظمة وتفعيل البرامج وتطبيقها، ولم يقتصر الأمر على المجال السياسي فحسب، بل امتدت الأسلمة إلى المجالات الأخرى كالاقتصاد والإدارة والقانون وحتى في مجال العلوم الطبيعية.
فكثيرا ما نسمع عن الاقتصاد الإسلامي والإدارة الإسلامية والمحاسبة الإسلامية والاجتماع الإسلامي، أما بالنسبة للعلوم الطبيعية فمن غير المعقول وجود مصطلحات مثل الفيزياء الإسلامية أو الكيمياء الإسلامية أو الهندسة الإسلامية، فتمت أسلمة هذه العلوم أيضا، ولكن من باب آخر وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، أو الطب النبوي على سبيل المثال، بالإضافة إلى رد جميع الاختراعات والاكتشافات العلمية إلى علماء المسلمين وحدهم!.
قد يتساءل البعض ويقول: «ما الضير في أن يكون هناك فكر إسلامي ينظر إلى العالم والسياسية والاقتصاد والمجتمع؟ فكل فكرة وكل دين ومذهب له نظرة إلى الإنسان والعالم، كما أن العلمانية نفسها فشلت فشلا ذريعا في بعض الدول العربية، فكانت هناك أنظمة سياسية مستبدة تشدقت بالعلمانية، فخلفت وراءها المزيد من الجهل والفقر والتخلف؟!».
ليست المشكلة هنا في الفكر الإسلامي كغيره من الأفكار والنظريات، وإنما تتمثل في رؤية أصحاب الإسلام السياسي، في أن قراءتهم وفهمهم الشخصي للدين ونصوصه هي القراءة الوحيدة التي تنطبق على معايير الحق، وبالتالي فإن آراءهم الشخصية تمثل الشريعة الإسلامية، ومن يخالف هذه الآراء فإنه يخالف الإسلام، لذا نجد البعض يردد هذه العبارة دوما «نقول لكم قال الله وقال رسوله، وأنتم ترددون أقوال مفكري الغرب»، وهم ما دروا بهذا القول أنهم يرددون ما يفهمونه من قول الله تعالى وقول رسوله، عليه الصلاة والسلام، متجاهلين بذلك الطبيعة البشرية في اختلاف الأفهام والآراء بين الناس، وهذا ما ينطبق على المجالات الأخرى كالاقتصاد والاجتماع والسياسة. 
هذا بالإضافة إلى أن الأحكام الفقهية وآراء رجال الدين لا تتضمن أطروحات سياسية، بل هي مجموعة من التعاليم والأحكام القديمة، وليست فكرا عقلانيا سياسيا، وحتى في عصر الخلافة الإسلامية، كالأموية والعباسية، كانت تقوم على أساس مجموعة من الآراء والفتاوى الفقهية، ولم تتضمن أي نوع من الفلسفة السياسية والاجتماعية والحقوقية، وما يقوم به الإسلام السياسي هو إصدار فتاوى دينية في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويطلب من الناس التحرّك في خط الطاعة والامتثال تماما مثل أحكام الصلاة والصيام والحج، فمثلما يتعبد الإنسان بهذه الشعائر فإنه يتعبد أيضا بآراء رجال الدين أو أتباع الإسلام السياسي في مجال السياسة والاقتصاد، فتصبح تلك الآراء نصوصا دينية مقدسة لا تقبل النقد أو الاعتراض، ومن ينتقد فسوف يكون مصيره جهنم في الآخرة أو إقامة الحد عليه في الدنيا.. وبعد هذا هل يمكن إطلاق صفة العقلانية على الأمور السياسية والاقتصادية؟ أو اعتبارها مجرّد آراء فكرية ونظريات بشرية؟
في هذا الصدد يقول أحد الباحثين ما نصه «في باب التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والتنمية السياسية يحتاج المجتمع البشري إلى آليات العلم والفلسفة، وتصور أن الدين يحل محل الفن والعلم والفلسفة هو تصور خاطئ وبعيد عن الصواب، فلو تقرر أن يقف الدين عائقا أمام النشاطات غير الدينية للإنسان ويعيق فعاليته العلمية.. فالدين سيكون في هذه الصورة ناقصا، حيث يعيق حركة الإنسان وانفتاحه على سائر أبعاد الحياة».
أما فيما يتعلق بفشل العلمانية في بعض الدولة العربية، فذلك راجع إلى فرضها بآليات القهر والإكراه، تماما مثل ما يفعل الإسلام السياسي ذلك، ولكن الفرق أن الأول عذابه في الدنيا فقط عند النقد أو الاعتراض، والثاني عذابه في الدنيا والآخرة ونيل غضب الله تعالى والناس أجمعين، والمسلمون لم يقبلوا العلمانية ولكن رحبوا بالإسلام السياسي حتى وإن كان ظالما مستبدا!.
لا يقبل المسلمون بأطروحات المجتمع المدني الحديث كنظريات وأفكار، إلا ربما تحت إطار «الإسلام المدني» الذي يعتمد على أسس ومبادئ، منها مبدأ الحرية في أبعادها المتنوعة، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، وتجاوز القضايا الأيديولوجية، وتأصيل التعددية على مستوى الأديان والمذاهب والثقافات والأخلاق.