عدنان حسين 

لو قُدّر أن يكون موعد الانتخابات البرلمانية في العراق هذه الأيام، ولو قُدّر أن تجري الانتخابات في موعدها، فما مؤكد حصوله أن رئيس الوزراء حيدر العبادي سيتقدّم صفوف المرشحين بعدد الأصوات الذي سيناله.. قد يتجاوز المليون صوت، ليسجل رقماً قياسياً في تاريخ الانتخابات العراقية منذ 2003، فالرقم الأعلى مسجّل حتى الآن باسم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الحاصل على 721 ألف صوت في انتخابات العام 2014 التي جرت قبل اجتياح تنظيم داعش وسيطرته على ثلث مساحة العراق.


بخلاف المالكي الذي سجّل رقمه القياسي بفضل وجوده ثماني سنوات متّصلة على رأس الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة، فإن الزخم التصويتي المتوقّع للعبادي سيكون بسبب نجاحه، بوصفه رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، في استعادة مدينة الموصل التي أعلنها داعش عاصمة له، وقبلها معظم المدن والمناطق التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي في عهد المالكي، من دون إلغاء دور النفوذ الاداري والسياسي للمنصبين اللذين يحتلهما العبادي. تحرير الموصل أكسب العبادي شعبية كبيرة، فالعراقيون رأوا في معركة تحرير ثاني أهم مدن البلاد معركة مصيرية لاستعادة الكرامة الوطنية أولاً ثم للخلاص من تنظيم إرهابي يحمل افكاراً وتوجهات، ونفّذ ممارسات، راديكالية متطرفة تتعارض مع النزعة المعتدلة والمدنية للمجتمع العراقي متعدّد الاديان والمذاهب والقوميات.
يوم اختير العبادي رئيساً للحكومة منذ ثلاث سنوات، لم يكن معروفاً جيداً للعراقيين، واختياره شطر الطبقة السياسية المتنفّذة، وبخاصة في إطار حزب الدعوة الاسلامية الذي هو عضو في قيادته والائتلاف الذي يمثله (دولة القانون)، فالاختيار حدث رغماً عن إرادة زعيم الحزب والائتلاف، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي كان مصرّاً على ولاية ثالثة له. بيد أن العبادي حظي بشعبية كبيرة بعد أقل من سنة على توليه رئاسة الحكومة عندما تجاوب مع أقوى حركة احتجاجية يشهدها العراق في تاريخه، وهي التي اندلعت في نهاية تموز (يوليو) 2015، احتجاجاً على انهيار نظام الخدمات العامة بفعل الفساد الاداري والمالي الذي تفشّى على أوسع نطاق وبأعلى مستوى في عهد المالكي. وطالبت الحركة بإجراء إصلاحات جذرية في العملية السياسية، وبخاصة لجهة إلغاء نظام المحاصصة الطائفية والقومية الذي اُعتُمِد لإدارة البلاد بدلاً من النظام الذي جاء به الدستور.
العبادي سارع بعد اسبوع فقط في التقدّم إلى مجلس النواب بحزمة إصلاحية ألحقها بعد أيام بحزمة ثانية، ما أنشأ له شعبية لم يحصل عليها زعيم عراقي آخر منذ الجنرال عبد الكريم قاسم الذي قاد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
لم ينجح العبادي في تمرير إصلاحاته برغم التأييد الإجماعي له في مجلس النواب الذي زايد اعضاؤه بطرح حزمة إصلاحية مكملة، فالبرلمان الذي لم يعترض أو يتحفظ خوفاً من تفاقم زخم الحركة الاحتجاجية التي اتّهمت معظم أعضاء المجلس بالفساد، لم يشرّع القوانين اللازمة لتحقيق الاصلاحات، بل إن كتلة كبيرة داخل المجلس من قوى مختلفة بقيادة أعضاء في كتلة «دولة القانون» عمِلت على تعويق الاصلاحات، وبينها تشكيل حكومة تكنوقراط خارج نظام المحاصصة، والعمل على اسقاط حكومة العبادي.
نقّاد العبادي اعتبروا أنه عمِل ضدّ نفسه، فلم يستثمر الزخم الشعبي القوي المؤيد له ولبرنامجه الإصلاحي في الضغط لتحقيق الاصلاحات.. رأوا فيه تردّداً وتواكلاً عن التقدم للامام. ربما هو لم يحصل على المشورة اللازمة لـ»تضبيط» البرنامج الإصلاحي سلفاً، بما لا يتعارض مع أحكام الدستور، وهو ما استغله مناهضو الإصلاح في البرلمان لمعارضة الاجراءات الإصلاحية التي حاول القيام بها. والأرجح أنه كان أيضاً في حال الخوف من إمكانية إطاحته، خاصة وأن قوة «الاخوة الاعداء» من حزبه وكتلته لم تكن مما يُستهان بها، بعدما كسبوا إلى جانبهم بعضاً من ممثلي السنة والكرد في البرلمان.
في غضون ذلك كان العبادي قد وضع أعداءه في حال الحرج الشديد عندما قرّر البدء بعملية استعادة المناطق التي احتلها داعش. انطلقت حرب التحرير من تكريت التي نجحت القوات العراقية في تحريرها نهاية مارس (اذار) 2015، قبل أن ينتقل الى محافظة الانبار ليحرّر مدينة الرمادي في ديسمبر 2015 ثم مدينة الفلوجة، المعقل القوي لداعش والاقرب الى العاصمة بغداد، في يونيو (حزيران) 2016 ، ثم كان التطور الأهم بانطلاق عمليات تحرير الموصل برغم ما واجهه قراره في هذا الخصوص من معارضة داخل حزبه وكتلته والكتل الحليفة لها بدعوى عدم نضوج العوامل المناسبة لتحقيق النصر. وخلف موقف المعارضة كانت رغبة قوية في عدم تمكّن العبادي من تحرير الموصل، قبل انتخابات العام المقبل وكسبه ورقة انتخابية قوية.
بعد تسعة أشهر من الآن من المُفترض أن تجري الانتخابات البرلمانية التي سيعقبها تشكيل حكومة جديدة، ليس من الواضح ماذا كانت ستتألف على وفق القاعدة المتّبعة منذ 2003 والمستندة إلى المحاصصة الطائفية والقومية والتوافق في ما بين أكبر الكتل داخل البرلمان أم أنها ستتشكل هذه المرة على قاعدة الأغلبية السياسية التي يدعو اليها على نحو صريح منذ مدة نوري المالكي.
في كل الأحوال فإن حظّ العبادي في ولاية ثانية سيكون منعدماً تقريباً إذا ما جرى الاستناد إلى قاعدة المحاصصة والتوافق، فالاحزاب الشيعية التي يتشكّل منها «التحالف الوطني» لن تقبل بأن يتولّى حزب الدعوة الاسلامية رئاسة الحكومة من جديد بعدما احتكرها أربع مرات متتالية على مدى12 سنة (حكومة الجعفري الانتقالية في 2005 وحكومتا المالكي بين 2006 و2014 وحكومة العبادي الحالية)، فبعض هذه الاحزاب، وبخاصة المجلس الأعلى الإسلامي بقيادة عمّار الحكيم، يعتبر أن الحكومة القادمة من حصته. أما إذا أُخِذ بالخيار الثاني (حكومة الأغلبية السياسية) فإن العبادي يحتاج للبقاء على رأس الحكومة إلى تشكيل تحالف وطني، غير طائفي أو قومي، واسع تلوح بوادره منذ فترة، يُمكن أن يجمعه، على رأس عناصر من حزب الدعوة ودولة القانون، مع التيار الصدري الذي انسحب من التحالف الشيعي وأعلن زعيمه مقتدى الصدر أنه يعمل لتشكيل كتلة وطنية عابرة للطائفية والقومية. العبادي والصدر يبدوان الآن أقرب ما يكونا إلى إياد علاوي زعيم القائمة الوطنية، وإذا حصل أن توافقَ الثلاثة في ما بينهم فيمكنهم أكثر من غيرهم كسب التحالف الكردستاني أو بعض أطرافه إليهم، وكذلك ممثلي التيار المدني الذي قاد الحركة الاحتجاجية ويواصلها حتى الآن، وهو مرشح لإيصال عدد من ممثليه إلى البرلمان في الانتخابات المقبلة.
هذا الخيار ملائم للعبادي تماماً، لكنه لن يتحقّق من تلقاء نفسه. العبادي يحتاج الآن إلى أن يستثمر شعبيته الطاغية الناشئة عن تحرير الموصل، لكنّ هذا يحتاج بدوره الى أن يُظهر العبادي عزماً أكبر على تحقيق الاصلاحات التي جرت عرقلتها طوال السنتين الماضيتين.
هل يفعلها العبادي هذه المرة؟.. أي هل يستغلّ الفرصة الذهبية الجديدة، والأخيرة، المتاحة له أم أنه سيبددها بالتردّد والتلكّؤ كما حصل في الفرصة السابقة عقب طرح حزمتيه الاصلاحيتين؟ 
العبادي وحده مَنْ يُمكنه الإجابة عن هذا السؤال الذي يتداوله الشارع العراقي الآن.