ضد الطائفية: جدل الأبواب الخلفية للتطرف 

يوسف الديني

مراجعة المفاهيم الضاربة بأطنابها في جذور الفضاء الديني والحقل الإسلامي باتت ضرورة ملحة هذه الأيام مع الوعي الجديد الذي يتخلق في الخليج على المستوى الاجتماعي والأجيال الجديدة الشابة المتخففة من حمولات مرحلة الصحوة والمنفتحة على تيارات العولمة والحداثة والمدنية التي تلقي بظلالها الكثيفة على أسلوب حياتهم بدءاً من الهواتف الجوالة وصولاً إلى فضاءات الإعلام الرقمي وما يطرحه من تحديات على مستوى المفاهيم والمحتوى الذي يطرح تحديات متجددة بشكل مطرد.
رحيل فنان الخليج الأول عبد الحسين عبد الرضا وما تبعه من جدل تلبس فيه الديني بالاجتماعي، وهو جدل منخفض السقف جداً لكنه يأتي في سياق محاولة استعادة خطاب الكراهية والتطرف لشرعية الحقل الديني عبر ضخ مفاهيم تم تجاوزها ليس عبر أطروحات اجتهادية فقهية وإنما من خلال وعي إنساني وثقافة تسامح أفرزتها ثقافة العولمة وما تفرضه من تعايش ضد التأطيرات الدينية والقبلية وحتى الجغرافية، وهو وعي كان يمكن أن يتحول إلى ثقافة راسخة متى ما وجد صوت الاعتدال المفقود وليس إعادة بعث «المتجاوز» العقائدي والطائفي من التيارات التي توقفت لاعتبارات مرحلية عن مقارعة الفضاء السياسي ومنطق سيادة الدولة لتنفذ عبر ملفات اجتماعية وثقافية لإعادة «السيطرة» أو بحسب عالم الاجتماع الفرنسي الشهير في دراسات الممانعة الدينية وتجاذباتها الاجتماعية بيير بورديو، فإن الحقل الديني يتحول إلى «سوق تنافسية تسود فيها العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية، وتخضع لصراع أطراف متعددة عن مصالحها وشرعيتها»، وذلك بهدف احتكار «الإنتاج الرمزي» للمعرفة الدينية وانعكاساتها على البنى الاجتماعية، وهنا تكمن المشكلة أن رموز هذه الممانعة الدينية بحمولات ومفاهيم باتت مجرّمة قانونياً ومتطرفة بل ومحرجة لسيادة الدولة وصورتها الرمزية كدولة مواطنة تسع الجميع دون تمييز ديني أو عرقي أو مناطقي، ومن هنا تعالت الأصوات اليوم للمطالبة بتشريعات ضامنة لإيقاف خطاب الكراهية أياً كان مصدره، إلا أن معالجة هذه الأصوات بحاجة إلى إعادة تفعيل «صوت الاعتدال» وتعميمه عبر مشاريع ومراكز وأطروحات تتبنى الوجه الآخر من معادلة مكافحة التطرف المنتج له والمؤدي لتقرحات الإرهاب، وهي في المحصلة نتاج عملية معقدة من تفاعل التطرف والتشدد والنفسية المأزومة والمناخ الاجتماعي الحاضن للمفاهيم المؤسسة للعنف.
فيما يخص الطائفية تحديداً فهي اليوم بسبب تداخل الجانب العقائدي والسياسي منذ بزوغ ثورة الخميني التي ساهمت في تحويله إلى ملف ساخن عبر إنتاج ولاية الفقيه والإسلام السياسي الشيعي العابر للحدود، فالطائفية بهذا الاعتبار ملف متداخل ومتعدد في مرجعياته وتنوع مصادره وتحولاته الدلالية من زمن لآخر، فالطائفية في التناول التراثي المستند إلى تقسيم الأفكار إلى ملل ونحل، تختلف كلياً عن الخبرة التاريخية التي طالت المفهوم في تناوله المعاصر فيما بعد حقبة الدولة العربية الحديثة، كما هو مختلف في ذات الوقت عن التناول الغربي للمفهوم قبل وبعد نشأة الدولة القومية، ومع اختلاف المدارس المرتبطة بتيارات الحداثة وما بعدها.
الفرز الطائفي في صيغته «العقائدية» كان نتيجة صراعات لاهوتية بالأساس، ترجع بداياته المبكرة إلى مرحلة النزاع الذي حصل بين صحب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كانت بوادره موجودة في حياته، ولكنه كان بحكمته واحتوائه المذهل للفرقاء الذين عاشوا في فترة الجاهلية، إرثاً هائلاً من الشحناء والاختلاف، يحمل أبعاداً عشائرية. لكن الانشطار الذي حصل بعد وفاته في تحديد الخليفة وما تبع ذلك من فتن وأزمات، تكللت بانتهاء ما سمي بـ«الحقبة الراشدية» على يد الدولة الأموية، التي كانت في حقيقتها ذات توجهات براغماتية سياسية أكثر من تعبيرها عن الدولة الدينية، (وهنا يمكن تسجيل ملاحظة الخطأ في تقييمها من كلا الطرفين)، ثم جاءت الفترة العباسية التي حرص زعماؤها على الاستفادة من الدرس الطائفي بشكل كبير، من خلال الاستقطاب المذهبي الطائفي عبر التأسيس على أحقية الانفراد بالسلطة، لأسباب سلالية، وهو ذات المبرر الذي كانت تطرحه الأسر الهاشمية التي شكلت أحزاب المعارضة، مما أدى إلى تحول العراق وقتذاك، ويا للمفارقة، إلى ساحة صراع طائفي، مما ساهم في تشكل تيارين أساسيين ليس فقط على أساس الاعتقاد، وإنما على أساس الهم السياسي، وهما الشيعة والسنة. وكان للتحولات الاقتصادية الضخمة التي جنتها السلطة العباسية، أثر بارز في تأسيس الإمبراطورية العباسية، التي أكدت بُعد الحكم الديني، اعتماداً على الحق الإلهي المطلق فيما جعل خصومهم يؤسسون للرمزية التضحوية، أو المعارضة الممثلة للإسلام المغيب.
اليوم تترسخ الطائفية السياسية على أساس متين من الطائفية الدينية، ومع كل المحاولات التي بدأت مع عصر النهضة، لإيجاد صيغة توحيدية بين المذهب السني والشيعي، في ظل صعود دعوات الوحدة من قبل رموز النهضة، فإن كل تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح وحق لها، لأنها كانت ذات صيغ وأهداف «تلفيقية»، تحاول البحث عن المشترك، وهو مجمل وعام (أصول الإسلام الكبرى)، وتتجاهل كل ما هو تفصيلي وخاص، وهي الأفكار والمقولات التي بنيت شرعية كل الطوائف والجماعات الدينية عليها، سواء كانت في شكلها العقائدي أو الفقهي، بحيث إن أي انتقاص من تلك «التفاصيل- الهوية»، يعني مساساً بالشرعية، وهذا ما لم يجرؤ عليه تيار ديني إصلاحي حتى الآن لأسباب كثيرة لا مجال لشرحها في هذه العجالة.
من هنا يمكن فهم ردود الفعل العنيفة التي تطال اليوم جهود رموز معتدلة من السنة والشيعة، تحاول أن تخفف من الاحتقان الطائفي في شقه الديني، سعياً إلى تجنيب المنطقة كوارث الطائفية السياسية التي تدق ناقوس الخطر منذ سقوط العراق، وصولاً إلى الحالة اللبنانية.
في اعتقادي أن ما يهم الآن، هو إيجاد صيغة تعايش سلمية يجترحها عقلاء الطرفين، مع الاحتفاظ بمحددات الهوية الرئيسية. هذه الصيغة يجب أن تكون «مدنية» تدخل في إطار العلاقة التي تحكم بين المواطنين ضمن العقد الاجتماعي العام وأي مسكنات لهذا الداء ستكون بمثابة علاج العرض وبقاء الداء.
ملحوظة من المصحح: أرجو مراجعة (وإنما على أساس الهم السياسي)