حنا صالح 

مع الطلقة الأولى التي أعلنت بدء الجيش اللبناني معركة «فجر الجرود»، ومع بدء هدير الآليات والمدافع، تبلور أكبر التفاف لبناني حول الجيش الذي حدد أهداف المعركة: التحرير من رجس احتلال إرهابيي «داعش»، وإعادة الأرض إلى السيادة اللبنانية،

وكشف مصير العسكريين التسعة. اكتشف اللبنانيون أن جيشهم مِقدام وقادر، وبخلاف كل ما قيل عنه لسنوات خلت، من ضعف ووهن، وحتى ما ورد على ألسنة بعض كبار المسؤولين، من أن لبنان بحاجة للسلاح الميليشياوي، أظهر الجيش فوق ميدان المواجهات قوة وكفاءة، ومعنويات عالية، لم تقتصر على بسالة رجاله، بل برزت أساساً في شرعيته الوطنية، وفي الإحساس العارم بين الناس: هيدا عسكرنا وحامي الحمى، وهو قادر على التصدي للإرهاب والانتصار، وتجربة اقتلاع «نواة» الإرهاب الأولى، التي حملت اسم «فتح الإسلام» زوراً وبهتاناً ما زالت في الأذهان.
معركة «فجر الجرود» مع الإرهاب، وتطورات الميدان العسكري تشي بأنها محسومة النتائج لمصلحة الجيش، الذي يقاتل كطرفٍ فعالٍ في التحالف الدولي، وبعيداً عن أي تنسيق مباشر أو غير مباشر مع الجيش السوري أو مع ميليشيا حزب الله المنخرطة في الحرب السورية كإحدى أذرع «الحرس الثوري» الإيراني. ولم يعد تطهير لبنان من الخطر الوافد إليه إلاّ مسألة وقت، بعدما فشلت كل المحاولات لإيجاد بيئة حاضنة للإرهاب، ونجحت القوى الأمنية في تفكيك كثير من الخلايا، وساقت رؤوساً كبيرة إلى القضاء.
منذ اللحظة الأولى، التي بدأ معها الجيش تضييق الخناق على الإرهابيين، والصعود إلى التلال وقضم المواقع التي حصّنوها طيلة السنوات الماضية، وتنفيذ أوسع عمل عسكري لمحاصرة الإرهابيين، وإطلاق المرحلة النهائية من المواجهة، تعرض الجيش ومعه لبنان، لأوسع حملة ضغط وابتزاز لإلحاقه بمحور «الممانعة» تحت شعار التنسيق (...) وكانت لافتة بهذا السياق، الخطب المتتالية للسيد حسن نصر الله وضغوطه في السر والعلن لاستتباع الجيش لمحوره، هذا على الرغم من أن اجتماع مجلس الدفاع الأعلى، في أبحاثه وقراراته صبّ في منحى التأكيد على أن هذه المعركة ليست بأي شكل من الأشكال التتمة لما جرى في جرود عرسال، (هناك كثير من الغيظ من الصفقة المريبة مع إرهابيي «النصرة»)، بل أُريدَ لها أن تكون النموذج الفعّال من أن لبنان يستطيع النأي عن صراع المحاور، وأنه كفى لكل الممارسات التي أرادت أن يبقى البلد مسرحاً أو ورقة في ملف لا وظيفة له إلاّ خدمة نفوذ الآخرين وخططهم للهيمنة.
قبل أكثر من عشرة أشهر، وكانت سوريا قد دخلت مرحلة ما بعد حلب، أطلق السيد حسن نصر الله موقفاً لافتاً، إذ قال: «إن ما يجري في المنطقة له تأثير أكيد وحاسم على لبنان». (11 أكتوبر/ تشرين الأول 2016).
ومع هذا الموقف بدت الدعوة واضحة للآخرين، إلى تبني خيارات تجعل من حزب الله المرجعية وصاحب القرار، مقابل محاصصة في الكراسي وعائدات الدولة. ومنذ المعركة - الصفقة مع «النصرة» في جرود عرسال، تندرج كل مواقف ابتزاز البلد من جانب محور الممانعة، بالسعي لتجاوز «التسوية» الداخلية، وهي أساساً رديئة وظالمة، أي التخلي عن سياسة إبعاد لبنان عن نار المنطقة، وغض النظر عن الممارسات المتهم بها حزب الله من الكويت إلى البحرين واليمن وسواها... والتي تهدد بعزل لبنان ووضعه تحت حصار خانق. وبدا الخطاب «الممانع» ضاغطاً لـ«إقناع» كل الآخرين بأن «محور الممانعة» أنجز انتصاراً في الصراع السوري وصراع المنطقة، وأن لبنان مدعو للخروج من سياسة النأي بالنفس. ورغم أن سياسة النأي هذه بالكاد حققت بعض الإيجابيات، فهي ما تم التأكيد عليها في البيان الوزاري، وقبل ذلك في خطاب القسم... وقد مارس حزب الله كل أشكال الضغوط لجعل الآخرين يدفعون ثمن تدخله في سوريا، مع أن حركة لوحة الأحداث في الإقليم على السطح وفي العمق، ما زالت معقدة، والصورة الحقيقية مغايرة لما تدعيه خطب حزب الله، وما من جهة إلاّ وترى أن الخطط الروسية لإقامة «مناطق آمنة» وأخرى «خفض التصعيد»، تُنفذُ عبر شطبِ كل وجود لميليشيات «الحرس الثوري» الطائفية، وبالتالي فرض تحجيم شديد للنفوذ الإيراني.
قطعاً محاولات ابتزاز السلطة لن تتوقف، ولأن المرحلة فيها تحولات إقليمية، من بينها استمرار رأس النظام السوري، فقط لأن ظروف التسوية الشاملة في سوريا لم تكتمل بعد، فإن الحملة التي يقودها حزب الله لاستعجال التوظيف السياسي لن تتوقف، حتى أنه في خضم الإعداد لمعركة «فجر الجرود» شهد لبنان مشهداً سوريالياً، عندما طلب أبرز وزراء «الممانعة» موافقة حكومية على زيارة رسمية لدمشق، لإجراء مباحثات وعقد اتفاقات، ورفض الطلب لم يحل دون إتمام الزيارة، التي تحولت إلى منصة تهجم على الحد الأدنى من سياسة الحياد، وبدا واضحاً الإصرار على فرض التطبيع مع نظام بشار الأسد، وطي الموقف التقليدي المعتمد منذ انطلاقة الثورة السورية، بأن التعامل مع النظام السوري يكون من ضمن الإجماع العربي. وبالسياق إياه يبدو أن لبنان أمام موجة ضغوط متنوعة بينها محاولات تكميم الأفواه، وكان آخرها ما تعرض له الأسير المحرر أحمد إسماعيل، وعلى يد جهاز رسمي، على خلفية انتقاده الأطماع الإيرانية ودور حزب الله في الحرب على الشعب السوري.
مطلب النظام السوري التطبيع مع لبنان، لأنه بذلك يعزز شرعيته، لكن في ذلك استفزازاً مزدوجاً؛ الأول لأكثرية لبنانية موصوفة، لم تنسَ أن رأس أجهزة الأمن السورية، علي المملوك، مطلوب أمام القضاء اللبناني بالجريمة المعروفة «سماحة - مملوك» التي هدفت لتنفيذ أوسع الاغتيالات... ولم ينسَ أحد من كان وراء جريمتي مسجدي التقوى والسلام، والثاني استفزاز لمشاعر ملايين السوريين الذين هجّرهم الإجرام وتأييد لنهج أدى لتدمير سوريا وقتل نصف مليون من أبنائها.
مرحلة تجاذب أكبر سيشهدها البلد، لكن مع الإنجاز الكبير الذي حققه الجيش اللبناني، سيكون أكثر صعوبة على محور «الممانعة» استمرار الادعاء: الأمر لي!! لأنه مع تحرير البلد من الإرهاب وتحرير الأرض، يتمُّ تحرير قرار الحرب والسلم، وتتحول معركة «فجر الجرود» إلى فجر السيادة.