يوسف الحسن

يعيش مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في هذه الأيام، مخاضاً صعباً، لا تسعفه، أية قراءة لملفات أزمات قديمة مر بها، ولا تساعده ملفات خطرة مستجدة، ولا دروس هذا الاضطراب الكبير الذي يمر به عالمنا العربي، والإقليم من حوله... يبدو أن مجلس التعاون، كمؤسسة، قد دخل حالة «بيات»، توقفت أنشطته واجتماعاته المعتادة، في انتظار صبح جديد، أو ضوء في نفق أزمة غير مسبوقة.
صمدت منظومة التعاون أمام ثلاثة حروب كبرى، جرت في إقليمها وحوضها، لكنها عجزت عن توفير آليات ملزمة وواضحة، لإدارة الأزمات داخلها، أو اجتراح منبر لمناقشات صريحة في مثل هذه الأزمات والتحديات التي تواجهها، حتى وصلنا اليوم إلى حالة حرجة، تبدو فيها خريطة هذه المنظومة، أنها بحاجة ماسة إلى صيانة، ومعالجة الثقوب فيها، حتى يمكن الإقامة الصحية والآمنة فيها.
اليوم، كل الأضواء مسلطة على هذه المنظومة الخليجية، طبيعتها وأدوارها ومستقبلها، تحالفاتها وشراكاتها. هويتها ومشروعاتها التكاملية، علاقاتها الإقليمية والدولية... الخ.
لاقت سياساتها الخارجية وأدوارها العربية، في العقد الأخير، إعجاباً من البعض، وذماً وقدحاً من البعض الآخر، المعجبون أفرطوا في المديح، والمعارضون أفرطوا في القسوة والذم. 
في ظل انشغالات أو غياب أو شلل في القاهرة وبغداد ودمشق وغيرها من القوى العربية الفاعلة، اندفعت المنظومة الخليجية لإعادة رسم حدود مصالحها الحيوية الوطنية، وتوسيع الفضاء الحيوي لأمنها الوطني والجمعي، وأسهمت ضغوط إقليمية لدول الجوار الجغرافي، تحمل في طياتها أحلاماً امبراطورية باتجاه الجغرافيا العربية، في تسريع هذه الاندفاعة الخليجية الجديدة.
حاولت نخب خليجية وعربية، مراقبة تحليل هذه الاندفاعة الخليجية، وتفكيك طلاسمها، وبخاصة حينما استشعرت أن في نسيجها، «خيطاً» يحاول الفرار مع سياسات ملتبسة وحسب هواه، وبناء شبكات منسوجة بخيوط الدم والغُلوّ والعنف، والمصالح الدولية الغامضة، والرهان على تنظيمات إسلاموية تسعى «بأية وسيلة» لحكم الدول العربية، وقد اتسمت هذه السياسات في مجملها بالرعونة، وانعدام الحس بالمسؤولية الأخلاقية والقومية، وبأوهام «القوة الكبرى» وأحلام التمدد والنفوذ خارج نطاق القوة الحقيقية، مستغلة ما يجري من زلازل وفوضى، ومن فراغات هائلة في موازين القوى العربية الأساسية، مستخدمة ما لديها من ثروات طائلة، في تمويل «فواعل غير دولاتية»، فواعل، في معظمها، جرى تخليقها في مختبرات سياسات دولية، منذ لحظات «التكبير» في كابل، في مطلع الثمانينات، وفي مراحل زمنية تالية وأمكنة كثيرة.
أمضينا سنين كثيرة، ونحن نتحدث، سراً أو همساً، عن هذا الخيط، «اللغز» القطَري، ظلت منظومة التعاون حائرة، وهي ترى الشقيقة قطر، تلعب في ملاعب قريبة وأخرى بعيدة، بشيء من الجسارة غير المحسوبة، تلعب في خطوط متعرجة، ظنت في بعض الأوقات، أن واشنطن ولندن وباريس، وأنقرة، وحتى «تل أبيب»، تطلب منها «المشورة» الأساس، عندما ترسم هذه العواصم سياساتها في الشرق الأوسط، على حد قول حمد بن جاسم.
لم تفكر منظومة التعاون، في فترة الصبر الطويلة، باجتراح برنامج /‏ رؤية، لضبط إيقاع حركة عضو فيها، يوشك أن يُغرق المنطقة بالفوضى والحرائق، وهدر الإمكانيات والموارد، وسباق في التسلّح، وتمكين «فواعل عنيفة غير دولاتية» في إدارة حياة الشعوب العربية... الخ.
اليوم.. لا أحد يدري وجهة المستقبل، إن كان واقفاً أو جالساً أو راجعاً، ولا يعلم مصير النظام العربي القومي أو الإقليمي الفرعي في الخليج، هل سيعاد النظر في طبيعته ودوره وعضويته، وفي أوضاع الجغرافيا، وحقائق التاريخ؟.
اليوم.. نقف على تخوم حقبة جديدة، فيها من الممكنات الهاجعة والقابلة للتحقق، إذا أحسنّا إدارتها، ونقف كذلك أمام اختبار صعب، غير مسبوق، له ما بعده.
كثيرون منا، معذبون بالقلق أمام ما جرى ويجري، قد تنجح مساعٍ خليجية أو عربية أو دولية في «تبريد» الأزمة، لكن لا أحد يضمن عدم اشتعالها من جديد، لا أحد يضمن عدم «تسمم» خريطة هذه المنظومة من جديد، بما تحمله هذه الإمكانية من أكلاف وتبعات، في ظل «لعبة أمم»، تشتغل على مساحات تتمدد يوماً بعد يوم، ويتكاثر فيها المتصيدون والانتهازيون وتجار الحروب.
لقد اعتادت «طائرة» المنظومة الخليجية، على الهبوط السلس الآمن والناعم، عبر العقود الثلاثة الأولى من عمرها لكن نحسب أن «هبوطها» في هذه الظروف المعقدة، وبفعل الأزمة التي نسجت خيوطها الشقيقة قطر، يتم على أرض مزروعة بألغام كثيرة... مما يستدعي الحكمة والمهارة والحسابات الدقيقة.
نتمنى ألاّ تنزلق الشقيقة قطر، أكثر مما انزلقت، وألاّ تستجيب لغواية إعلام فاسد، أو مشورة مشبوهة، أو رهان سرابي على «أمن مستورد» من تركيا أو إيران أو من مخزن إجرامي لقوى إسلاموية منظمة، أو تطمينات غربية فارغة الفعالية وزائفة الصدقية.
إن مثل هذا الانزلاق النزق، هو قفز إلى المجهول، وهو عبء مستقبلي معقد ومكلف، يصعب تحمل أثقاله وتبعاته وتداعياته.. هل تستدرك الشقيقة قطر، قبل فوات الأوان؟.