نزار عبد القادر 

اعتبر المؤرخ الأميركي البريطاني المولد برنارد لويس، أن خسوف الفكر القومي العربي «أدى الى ابراز الأصولية الإسلامية كأفضل بديل لتأمين المخارج والحلول للأزمات المستعصية التي تشهدها دول الشرق الأوسط بعدما عجزت وصفات الحكام المستبدين في ضبطها، وبعدما سقط معها كل المفاهيم والإيديولوجيات المستوردة من الخارج التي فرضها هؤلاء الحكام». وذهب لويس الى القول بسقوط كل الوصفات التي قدمتها الاستخبارات البريطانية وغيرها من الأجهزة الغربية الى حكام المنطقة للاستمرار في الإمساك بمصائر شعوبهم بعدما استنفدت طاقاتها ووظائفها في السيطرة على الشعوب.

يملك الحكام القدرة على تعليق الدساتير وحل الأحزاب والتيارات السياسية، وقمع التظاهرات والتجمعات المطالبة بالحريات والإصلاح السياسي والاقتصادي، لكن لا يمكنهم منع إقامة صلاة الجماعة في المساجد، وأقصى ما يمكنهم فعله أن يمنعوا الاحتفالات الدينية واستغلالها الخطاب السياسي.

من هنا، فإن الحركات الإسلامية الأصولية تحوّلت تنظيمات متفلتة من رقابة السلطة ومن هيمنة أجهزة الدولة، بل ان ممارسة الضغوط تزيدها قوة، وتسرّع انتشارها. ويمكن هذه التنظيمات الاستفادة من جهود الطابور الخامس الذي ينشأ في ظل تعميم حالة الفوضى في المجتمع من أجل استعجال تفكيك السلطات الأمنية والقمعية على غرار ما فعله البولشفيون في بداية الثورة في روسيا عام 1917.

تؤشر التطورات والأزمات التي شهدتها دول شرق أوسطية منذ سقوط شاه ايران وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 وبعدها الحرب على العراق، ولاحقاً مسلسل الأزمات التي عصفت في مجتمعات عربية في ظل «الربيع العربي»، إلى مدى ضعف البنية السياسية للدول التي أنشئت بشكل اصطناعي جعلها سريعة العطب في مواجهة الحركات المتطرفة.

وأثبتت هذه الأزمات والأحداث أنه عندما يتم إضعاف السلطات المركزية للحكم، فإن ذلك سيؤدي الى انهيار الكيان السياسي، في ظل عدم توافر فكرة الهوية الوطنية الجامعة، وغياب ولاء المواطنين للدولة الموحدة. وفي ظل ظروف كهذه، فإن الدولة تصبح جاهزة للتشظي، والأمة جاهزة للانقسامات المذهبية والإثنية.

إذا عدنا إلى التاريخ الحديث، فإننا نجد أن ظاهرة نشوء تنظيمات اسلامية اصولية تسعى الى تفكيك الأنظمة لإقامة خلافة اسلامية ليست بجديدة. عام 1881 اعلن رجل الدين السوداني محمد أحمد أنه «المهدي»، وأطلق ثورة لفصل السودان عن مصر، وقد نجح في ذلك. وتبعه ابنه عبد الله بن محمد في حكم السودان واستمرت خلافته حتى عام 1898، حين سقطت بفعل الحملة العسكرية البريطانية– المصرية التي قادها اللورد كيتشنر. غير أن أيديولوجيا «الخلافة الإسلامية المهدية» بقيت حية لعقود لاحقة.

 

الثورة وتصديرها

عقب ما جرى في ايران عام 1979، وبعد اسقاط الشاه في «مؤامرة اميركية» لتغيير الحكم في ايران، نجحت الحركة الإسلامية المعارضة التي قادها الإمام الخميني في الاستيلاء على السلطة وإقامة جمهورية اسلامية يتحكم في قرارها المرشد ورجال الدين، بالاشتراك مع تنظيم عسكري جديد عرف بـ «الحرس الثوري». ونشأت في ظل الحكم الجديد فكرة «ولاية الفقيه» التي تدعو الى تصدير الثورة الإيرانية الى مختلف الدول الإسلامية، وخصوصاً الدول العربية المجاورة.

وأدى الغزو الأميركي للعراق عام 2003 الى استغلال إيران عملية تفكيك الدولة العراقية للتدخل في العراق وفرض هيمنتها على جنوب البلاد من خلال الأحزاب والحركات الشيعية العراقية التي احتضنتها ايران وسلحتها من أجل اسقاط نظام صدام حسين. وهكذا انقسم العراق الى ثلاث دويلات: الجنوب الشيعي حيث سيطرت القوى الموالية لإيران، بغداد في الوسط حيث تركز الاحتلال الأميركي، اقليم كردستان في الشمال الذي ينادي بالانفصال وإقامة دولة كردية مستقلة.

أدت هيمنة الأحزاب والحركات الدينية الشيعية المرتهنة للنفوذ الإيراني على السلطة ومقدرات العراق الاقتصادية الى عزل السنة العرب واضطهادهم من خلال عمــــلية اجتـــثاث «حزب الــبعث» وإلى نشوء حركـــات سنية أصولية كان أبرزها تنظيم «القاعدة» في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وصولاً إلى تنظيم «داعش» بقيادة ابو بكر البغدادي الذي استغلّ حالة الفوضى والانقسام في العراق والثورة السورية ضد نظام الأسد للتمدد بسرعة قصوى في احتلاله أجزاء واسعة من سورية والعراق بما فيها بعض المدن الكبيرة.

ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في برهة إعلان الخلافة بمظهر القوة الخارقة القادرة على التمدد بسرعة كبيرة، بالإضافة الى امتلاكه ديناميكية شعبية وعسكرية تدعم هذا التمدد من خلال تدفق الجموع المؤيدة له محلياً ومن خلال حركة تطويع آلاف المقاتلين الأجانب الذين التحقوا به من اكثر من سبعين دولة.

لم تكتف الدولة الإسلامية بما حققته من انتصارات في سوريا والعراق، واستغلت موجة الدعم التي جاءتها من مجتمعات عديدة من أجل انشاء تنظيمات عسكرية تابعة لها في عدة دول عربية وأجنبية. وكان اللافت توجيه بعض خلاياها الموجودة في العديد من الدول، وخصوصاً في اوروبا، لشن مجموعة واسعة من العمليات الإرهابية التي هزت بلدانا عدة.

 

إنذار لعواصم القرار

شكلت هذه الظاهرة الخطيرة انذاراً لعواصم القرار، فتحركت الولايات المتحدة في ايلول (سبتمبر) 2014 لتشكيل تحالف دولي لشن هجوم جوي واسع ضد «داعش» في العراق وسورية، وتحركت روسيا في ايلول (سبتمبر) 2015 من أجل نجدة النظام السوري ومنع سقوطه أمام ميليشيات معتدلة واسلامية، وذلك تحت شعار الحرب على الإرهاب، مع ابداء مخاوف من تمدده باتجاه روسيا.

قدمت القوات الأميركية المتدخلة في العراق وسورية والقوات الروسية في سورية الدعم الجوي، والمساندة اللازمة للقوات النظامية، كما قدمت المعلومات التكتية والإستراتيجية اللازمة للعمليات العسكرية، بالإضافة الى الأسلحة والوسائل اللوجستية لتحقيق الانتصارات العسكرية المتتالية. ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الدور الذي قدمه المستشارون الأميركيون والأوروبيــون والروس من أجل إعادة تنظيم الوحدات العسكرية وتجهيزها وتدريبها وإدارة عملياتها. وكان من نتائج هذا الدعم الأميركي والروسي في العراق وسورية تجفيف مصادر تمويل «داعش» وملاحقة قادته وانزال سلسلة من الهزائم الكبيرة به.

بعد تحرير عدد كبير من المدن والمحافظات في البلدين، وفي ظل الانهيارات العسكرية لمواقع «داعش»، هل يمكن اعتبار أن فكرة قيام «الخلافة» قاربت السقوط الى غير رجعة؟ من المبكر وغير الواقعي اعتماد هذا الاستنتاج، فتنظيم «داعش» ما زال يسيطر على مناطق واسعة، وقيادته ما زالت تبدي قدرة على القتال وعلى شن هجمات لاسترجاع بعض مواقعها. من هنا يمكن، ومن باب الحيطة الأمنية والسياسية، القول إن المعركة ستكون طويلة وستتطلب الى جانب الجهود العسكرية المبذولة مزيداً من العمل السياسي والإجراءات الإصلاحية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وإطلاق ورشة واسعة لإعادة اعمار المدن المهدمة.

لا يمكن كسب الحرب ببعديها العسكري والأيديولوجي من خلال الحفاظ على الأنظمة القائمة وممارساتها القمعية، فالقوة العسكرية وحدها غير كافية لكسب الحرب، إذ يمكن التنظيم الانسحاب والاحتماء في انتظار الظروف المواتية للتمدد والمناداة بدولة «الخلافة» مجدداً.

لذا لا بدّ من عملية اصلاحية شاملة في العراق وسورية وإعادة كل من توحيد البلدين، أما التلكؤ أو الفشل في القيام بالإصلاح، فسيؤدي حتماً الى حرب طويلة مع الأصولية الإسلامية، والى تفكك البلدين الى كيانات متحاربة.

يبقى الأمل في أن يدرك الحكام ومعهم كل القوى السياسية في العراق وسورية، أن المطلوب بإلحاح للتخلص من الأصولية والإرهاب هو اعتماد خيار اقامة دولة مدنية ديموقراطية، تحفظ حرية الأفراد وحقوقهم مقابل مطالبتهم بالولاء للوطن والدولة.