إياد أبو شقرا 

وسط حالة التخبّط المطبقة على مشرق عربي جريح تحاصره قوى إقليمية وعالمية لكل منها مشروعها، استيقظت مطامح وأطماع وحساسيات نائمة من سباتها، ووجدت في الوضع الراهن مناسبة للتعبير عن نفسها.


أصلاً، ما كان لهذه المطامح والأطماع، وكذلك للحساسيات النائمة والمكبوتة، أن تظهر إلا في ظل اختلال إقليمي كبير وتبدّل جذري في المعادلات وموازين القوى الدولية. وصحيح أن الإجماع السياسي على «حدود» الوطن ما عاد مضموناً حتى في الدول الأوروبية التي تمارس الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان - بدليل سعي الاسكوتلنديين والكتالونيين للانفصال عن بريطانيا وإسبانيا عبر استفتاءات شعبية - لكن الاضطراب الداخلي يظل مدخلاً أكيداً إلى التنابذ والتقسيم كما نرى الآن في العراق وسوريا.
من دون الحاجة إلى التعمّق في قراءة التاريخ - الصحيح منه والمزوّر - بديهي أن هناك علاقات وثيقة بين الولاءات والمصالح. ففي ظل الإمبراطوريات المتعدّدة الأعراق، ومنها الدولة العثمانية التي حكمت المشرق العربي لأربعة قرون، ارتضت مكوّنات مشرقية كثيرة التفاعل والتعايش والتزاوج، فـ«تترّك» عرب... و«استعرب» أكراد وسريان وكلدان.
يومذاك كانت المصلحة الواقعية تقضي بالتفاعل والتعايش، وصولاً في بعض الحالات إلى حد الذوبان. كذلك فإن الهجرة الداخلية، بل حتى حالات التبادل السكاني أيضاً، كانت أمراً عادياً في أرجاء فضاء سياسي واقتصادي واجتماعي واسع. واليوم عندما تتصرّف قيادات عرقية أو دينية وكأنها تريد «تصحيح» أخطاء الماضي أو «الثأر» لظلم قديم، فإنها تُقدم على ذلك ليس لأنها أكثر شجاعة وحزماً من أجيالها السابقة، بل لأن الظروف الموضوعية باتت تسمح لها بفعل ما كانت لا تجرؤ على فعله في الماضي.
بعض الشيعية السياسية، الذي يجاهر اليوم بإصراره على الانتقام لمقاتل الطالبيين و«إعادة شرعية» السلطة في العالم الإسلامي لملالي إيران انتقاماً من أحفاد بني أمية، ما كان بوسعه فعل ما يفعله، لولا دعم طهران وغضّ القوى الغربية الطرْف عن مشاريع هيمنتها الإقليمية وقدراتها العسكرية النووية.


ونفر من الأقليات الدينية - وبالأخص المسيحية - ما كان مضطراً للترحيب من جديد بالحمايات الأجنبية لولا بروز ظاهرة متطرّفة ودموية ومشبوهة اسمها «داعش»، صرفت فظائعها الأنظار بعيداً عن مشروع الهيمنة والثأر الذي تنفذه إيران ومعها أذنابها. ولذا نرى الآن هذه الجماعات وقد أقنعت نفسها ليس بجدوى الحماية الأجنبية فحسب... بل ببناء «تحالف أقليات» أيضاً!
ثم إن هناك أقليات عرقية ولغوية كبيرة، مثل الأكراد، اكتشفوا - وهذا من حقهم - أن أمامهم فرصة قد لا تتكرّر لبناء دولة لم تقم في يوم من الأيام على الرقعة المتضخمة التي يعتبرونها اليوم من حقهم. ولئن كان لدى الأكراد، بالذات، من الظلامات ما يسوّغ لمتطرّفيهم المجازفة باستعداء جيرانهم في ظل التمييز الطويل الذي مارسه بحقهم الأتراك والإيرانيون - ثم في مرحلة متأخرة جداً، أنظمة عربية شوفينية الشعارات وعشائرية النسيج - فإنهم ليسوا أبرياء تماماً من ممارسة التمييز بحق أقوام آخرين. وهنا قد يجادل مُجادل أن ما فعله الأكراد مع الآشوريين قبل بضعة عقود في جبال الهكارية وشمال العراق يندرج تحت التطهير العرقي. كما أن أسلوب التعامل الفوقي الذي تعتمده قيادات منهم راهناً في مناطق عدة من العراق مثل كركوك وتلعفر وسهل نينوى وغيرها، وفي مناطق أخرى من شمال سوريا - وبالذات في محافظات الحسكة والرقة وحلب - لا تبشّر بمستقبل نقي وخالٍ من الأحقاد.
هنا يكمن التحدّي الحقيقي. وهنا يجب إدراك تبعات المغامرة والانتهازية وقطع خط الرجعة ومدى الحكمة في الاعتماد المفرط على وعود الدعمين الإقليمي والدولي. ليس فقط بالنسبة للأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، بل للغالبية الدينية والمذهبية على مستوى المشرق العربي كله أيضاً.


إن مجرد وجود ظاهرة مثل «داعش» لدليل على وجود أزمة خطرة في العالمين العربي والإسلامي، ذلك أن التجارب ودروس التاريخ علمتنا أن الاعتدال والانفتاح من أهم سمات مراحل النهوض والازدهار في مسيرات الدول، بينما التطرف والتزمت مؤشران للضعف والوهن والانقسام الداخلي. ثم إن الجنوح إلى الإرهاب والقتل العشوائي ينم عن رهانات قاصرة لا تفهم العالم، ولا تقدّر عواقب الأفعال. والنتيجة جلية للعيان في كل مكان من العالمين العربي والإسلامي تراجعت فيه لغة الحوار العاقل والتفاهمات العريضة أمام الخطاب الإلغائي العنفي والغوغائي. والخوف كل الخوف ألا يكون الثمن الباهظ الذي دُفع حتى الآن كافياً... وأساساً كان هذا المبرّر الذي اختبأ خلفه الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما عقد صفقته النووية مع حكام إيران، الذين وصفهم بأنهم «غير انتحاريين»! وكان الذريعة التي تستّرت خلفها الدول الغربية للتآمر على انتفاضة الشعب السوري والتضحية بها وبه.


هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، لا ضمانات على أن هذا الوضع سيدوم. لأن استغلال إيران وأذنابها في المنطقة ظاهرة «داعش»، واستثمارهم فيها، سيصل إلى نهايته عاجلاً أو آجلاً في ضوء تنامي التورط الدولي الميداني في العراق وسوريا. كذلك فإن التناقضات كبيرة جداً وقوية جداً بين المشاريع التي تتسابق للظفر بجلد الدب قبل صيده.
ففي شمال العراق ثمة نُذُر مواجهة بين «الحشد الشعبي» الشيعي الضارب بسيف طهران والقوميين الأكراد الطامحين إلى تأسيس دولة كردية مستقلة... بصرف النظر عن كلامهم الدبلوماسي المهذب. وهذا أمر طبيعي، فإيران لن تكون مرتاحة لاحتمال استقلال يعلنه الأكراد في عراق دمّرته إيران وأسهمت في تفتيته، لأن لديها أيضاً أكرادها ومطامحهم الانفصالية.
ولا تختلف الصورة كثيراً في سوريا، التي شجّعت واشنطن أكرادها الانفصاليين - بحجة قتال «داعش» - على تأسيس نواة دويلة على طول معظم الحدود مع تركيا، مع علمها أن تركيا هي الدولة الشرق أوسطية التي تضم تقريباً ضمن حدودها الحالية نصف مجموع أكراد المنطقة.
وعليه، ستكون الحالة الكردية رهينة لرؤيتي واشنطن وموسكو للمنطقة في المستقبل المنظور. وفي المقابل، يرجح أن تتأثر الحالة الشيعية - مع امتدادها العلوي في سوريا - باستراتيجية موسكو الإقليمية ورد الفعل الأميركي عليها.