فيصل الجهني

كنا نحرص على فهم واستيعاب ما يطرح أمام عقولنا من معلومات ونظريات ومعارف، لأننا كنا مقتنعين تماما، بأن احتواءها واستيعابها يجعلاننا نفاخر بها أمام الأهل أجمعين

وأنا أحاول لملمة شتات الكتب المدرسية لابنتي التي تدرس في الصف الأول الثانوي، وقع بين يدي كتاب الكيمياء، فذهلت (مني)، وأنا الذي كنت أحسب أني أنتمي -فقط- إلى صنف الإنسانيات والأدبيات، فإذا بي أجد نفسي أتذكر رموز عناصر الجدول الدوري ومستويات الطاقة الأربعة والمعادلات الكيميائية ووزنها.. 
من الموضوعات التي صادفتها في دراستي الأولية قبل ثلاثين عاما تقريبا.. لم تكن المسألة ترتبط بقياس ذاكرة الحفظ فحسب، بقدر ما هي عمليات ذهنية مركبة.. كيف استطاعت أن (تسلم) من (النوى والنوائب)؟ ومن عمر مديد مشبع بما اقتحم العقل من أفكار ورؤى وقراءات في شتى فروع الفن والمعرفة ما عدا الطبيعيات العلمية.. كيف استطاعت أن (تسلم) من المعلومات التي مارس عليها التعليم الجديد كثيرا من التشويه والتزييف و(التبليم)! 
المهم أنها (سلمت).. (و..بس)! أما لماذا (سلمت) كل ذلك العمر الجميل وبقيت في الذاكرة المنهكة، فذلك ما سوف أقاربه (فيما يأتي): 
(1) أظن أني بذلت جهدا خارقا للنكوص إلى لحظة ماضوية، كنت فيها أدرس مرحلتي الثانوية في أحد أحياء الطائف المأنوس، لكي أستحلب من بياضها الأفكار التي كانت تجول في ذهني آنئذ: (وربما في ذهن كل طالب جاد في تلك الفترة): كنا ننظر إلى المعلم نظرة مجللة بالتقدير (الهائل)، باعتباره شخصية رفيعة المقام داخل المجتمع، وإن ما يصدر عن تلك الشخصية من رضا أو رفض وغضب أمور (حاسمة)، يقاس بها نجاحنا أمام أنفسنا أولا، ثم أمام الآخرين (وأولهم والدونا)..
كما كنا نحرص أشد الحرص على فهم واستيعاب ما يطرح أمام عقولنا من معلومات ونظريات ومعارف، بسبب أننا كنا مقتنعين تماما، بأن احتواء واستيعاب كل ذلك يجعلاننا نفاخر بها أمام الأهل أجمعين والذين كانوا يولون الشأن التعليمي (والتفوق فيه) اهتماما بالغا. أليست نظريات نيوتن وأنشتاين وقوانين القوة والجاذبية غنائم لا وجود لها (آنذاك) في وسائل التواصل والمعلوماتية، إلا أن تستوعبها و(تتفوق) بها في اللحظة الدراسية الآنية التي لا تتكرر..
(2) من جهة أخرى، فإن حماسنا للمدرسة يزداد يوما بعد يوم، ونحن نستشعر اقتراب النهايات السعيدة، فليس ثمة عقبات إضافية وتكاليف ما بعد ثانوية، فلا اختبارات، سوى تلك الاختبارات الجادة المثالية التي نختتم بها مراحل تتويجنا إلى مفازات الجامعات والكليات العسكرية والمعاهد التقنية.. فلا اختبارات (قدرات) ولا اختبارات (تحصيلية) ولا (اختبارات) قبول ولا (اختبارات) عام كامل في السنة الأولى (المختلقة) في المرحلة الجامعية! كثرة العقبات وتعقيدها لطالب (التعليم الأولي) تزيده إحباطا وكرها للمدرسة وتجلياتها (كما يحدث الآن).! وهو يعلم بأن تعب وجهد اثني عشر عاما لا تعادل أكثر من ثلث النسبة المطلوبة لاقتحام العالم الكبير، عالم (ما بعد المدرسة)! 
(3) وفي هذه الأثناء، فإنا كنا نجل الذين أقروا ونفذوا الاختبارات النهائية التي تقيس استيعابنا لـ(كل) المعلومات والمهارات النظرية والتطبيقية معا بعكس ما يحدث الآن، من اختبارات (تلوين بالقلم الرصاص) الذي لا يكتب فيه الطالب حرفا واحدا! إذ كيف يطمئن المعلم لقراءة طلابه وحفظهم للنصوص اللغوية الأدبية؟ وكيف يتأكد من فهم طلابه لطريقة (حل) المسائل الرياضية والفيزيائية؟؟ ومن جانب آخر، فربما جعلت اختبارات (حادي بادي) الطالب المتفوق على مستوى واحد مع الطالب الكسول، من خلال (الأعين المتلصصة) التي لا يمكن كف شرورها مع تلك الغرف الضيقة التي لم تعد أصلا لاختبارات أو نحوها...
(4) ولعل سهولة الجلوس على كرسي الإدارات المدرسية، بالطرق التقليدية والنظرات الضيقة من المكلفين باختيار (مديري ووكلاء) المدارس، أفضى إلى اقتحام من لا يملك قيادة أي عملية تعليمية تربوية لهذا المجال (فضلا عن قيادة أي أمر من الأمور)، فقد وجد هؤلاء أنفسهم في (لجة) المشهد بلا أدوات مهنية ولا قدرات شخصية، بلا طرق للترغيب أو وسائل للترهيب.. بلا شيء.. تمااااما! ولك أن تتخيل كيف هي المخرجات المنتظرة من البيئة التعليمية، التي يقودها هؤلاء (برعونة وجهل)؟! 
(5) وبالتأكيد، فإن المسافة بين أداء المعلمين قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، والمعلمين الآن تبدو كبيرة، لأسباب كثيرة تتعلق بغياب الرغبة الحقيقية للمعلمين (الجدد)، في ظل (حتمية) اتجاههم إلى الكليات (البسيطة) التي تخرج المعلمين بتزايد مطرد، وعدم وجود الحوافز المادية والمعنوية التي (يتميز) بها المعلم ذو الكفاءة والمهارة عن أقرانه من المعلمين من ذوي الأداء المنخفض، وكذلك الشأن نفسه بين معلمي الخبرة والمعلمين القادمين (للتو) إلى مجال (التعليم)، فكثيرا (ما يتساوون) في الحقوق والواجبات، بل ربما يكلف معلم الثلاثين عاما بأضعاف (عمل وواجبات) معلم السنوات الأولى!!، إضافة إلى أسباب أخرى يضيق بها الفضاء الذي نحلق فيه اللحظة معا! 
(6) ربما (قاربتم) معي سبب بقاء تلك المعلومات والمفاهيم والإجراءات الفيزيائية والكيميائية في ذهني، لأكثر من ثلاثين عاما.. كنت حينها أدرس في ثانوية الطائف (بالطائف) مستمتعا مطمئنا.