أحمد أميري 

بعد أن انجلى الغبار في مانهاتن، برز السؤال أمام الجميع: أي قراءة للإسلام ألهمت الخاطفين؟! وفي الأثناء أخذ التصوّف يلقى الرواج، ونُودي عليه باعتباره الخلاص، وتشكّلت قناعة في أوساط المثقفين بأن هيمنة القراءات الأخرى أفرزت ظاهرة الظمأ الروحي لصالح التخمة الفقهية، وأخرجت جحافل المتعصّبين، والجماعات التي تكفّر‏‭ ‬رجال ‬الإطفاء، ‬والتنظيمات ‬التي ‬تعتبر ‬المجتمعات ‬جاهلية ‬لا ‬تسير ‬على ‬معالم ‬الطريق.

وأخذ يتردّد بأن الدول العربية انتبهت أخيراً للتصوّف، وبأن الغرب ينظر إليه كجسر بين الإسلام والعلمانية، الإسلام والليبرالية.. وظهر الشغف بالرومي، واحتفلت «اليونسكو» بذكراه.. فماذا حدث بعد معرفة الداء والدواء؟

في الواقع تفاقم التطرّف واستفحل نتيجة المستجدات على الأرض، وعدم حدوث تغيير على الحالة الدينية رغم مرور وقت كافٍ لجني الثمار، الأمر الذي يثير التساؤل عمّا إذا كان التصوّف قد فشل في أنسنة تديّن المجتمعات العربية؟

في رأيي أن التصوّف لم يجرّب لنعرف مدى فاعليته، فلا المناهج التعليمية اقتبست منه، ولا المؤسسات الدينية ضمّنته في خطابها، ولا الحكومات اتخذت ما هو أبعد من المعالجات الأمنية لظاهرة التطرّف، ويضاف إلى هذا أن التصوّف نفسه تعرّض لعملية غربلة زادت وتيرتها في العقود الأخيرة أخرجت منه ما كان يميّزه عن غيره.

حين عوّل المثقفون على التصوّف كانوا مأخوذين بالرومي الذي كان يؤكد على أننا أتينا إلى هذا العالم لنتواصل لا لنتفاصل، ثم يقول: «تعال وكلمني.. تعال ولا يهم من أنت ولا إلى أي طريقة تنتمي.. تعال حتى ولو كنت أخللت بالتزامك وتعهدك.. تعال لنتكلم عن الله». وبالسهروردي المقتول الذي كان يقول: «ركبوا على سنن الوفا ودموعهم.. بحرٌ وشدة شوقهم ملاحُ».

وكانوا يرون الخلاص لدى من آمنوا بالتعددية الدينية حين قالوا: «عباراتنا شتى وحُسنك واحد». وبابن الفارض الذي يحكي في تائيته على لسان الذات الإلهية بلغة متسامحة مع صاحب الزُّنّار، وحامل التوراة، ومع العاكفين على الأحجار ما داموا قد قصدوه. وبحافظ الذي كان يقول: «التمس العذر لحروب الاثنتي والسبعين فرقة، فقد سلكوا دروب الخيال حين لم يروا الحقيقة». وبابن عربي الذي يسع قلبه الجميع: «وقابلاً كل صورةٍ.. فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ.. وبيت لأوثانٍ وكعبة طائفٍ.. وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ».

وهذه المعاني لا وجود لها في التصوّف المطروح اليوم، فقد صار تصوّف طرق وطقوس، لا يهتم بمعرفة الإنسان نفسه، أو ببناء مملكة الله في قلبه، وصار أعلامه مجرد فقهاء يتحلّون برقة الخطاب، لكنهم لا يتبنون فكرة أن الحقائق المتعددة حقيقة واحدة، وأن جوهر الأديان واحد، ولا يدعون إلى إسقاط الحواجز، ولا إلى إبطال مزاعم التفوّق الديني.

ضيق الأفق والصدر صارا سمة عامة لدى كل الأطياف الإسلامية، ولم يعد هناك ذلك الجمال الصوفي الذي لامست حلاوته القلوب وروّضت النفوس، ولم يعد هناك حملة لذلك النور الذي أنار ظلام القرون، وضاعت المعاني الراقية في دهاليز الفقه، وإن بقي بعض المثقفين من ذوي الميول الصوفية أوفياء لكل ذلك، لكنهم في النهاية لا يشكّلون الوعي الديني.. وهكذا ارتفع عدد من الأبراج في مكان البرجين اللذين أثار تدميرهما السؤال حول الهوية الفكرية لخاطفي الطائرتين، وعرف الجميع مكمن الداء، لكن الطبيب لا يملك الدواء.