عزت صافي 

في أواخر نيسان (أبريل) الماضي صدرت مبادرة روسية كانت مبنية على نصيحة من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني فحواها أن المفتاح الأساسي لإنهاء محنة سورية هو أن تنفتح موسكو على واشنطن للتوافق على إنشاء تحالف دولي لمكافحة الإرهاب تكون الولايات المتحدة الأميركية قاعدته، أو في طليعته.

وفي تلك الفترة كان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في موسكو حيث التقى بنظيره الروسي سيرغي لافروف الذي بادره قائلاً: لقد استمعت الى كلام جلالة الملك عبدالله الثاني بأن المفتاح الأساسي لجهد دولي فعّال في سورية هو التعاون بين روسيا والولايات المتحدة. وأضاف: أستطيع أن أؤكد لكم أننا على استعداد تام لذلك، وإننا نتوقع موقفاً مماثلاً من واشنطن.

هل كانت موسكو فعلاً جادة بتبنيها نصيحة العاهل الأردني؟ الأشهر الخمسة الماضية على النصيحة تعطي جواباً إيجابياً، ومؤتمر «آستانة» هو الدليل الأول على فشل سلسلة مؤتمرات جنيف التي اختصر نتائجها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بجملة قصيرة قالها للوفد السوري الذي يمثل جبهات المعارضة المحاربة والمفاوضة: «لم تربحوا الحرب! « ولم يكمل دي ميستورا ليقول: «... والنظام السوري أيضاً لم يربح الحرب» وربما كان عليه أن يضيف: «... ولن يربح الحرب وربما لن يربحها أحد»

والواقع منذ بداية مهمته، وقبل أسبوع من عقد مؤتمر جنيف في منتصف شباط (فبراير) الماضي بين المعارضة السورية وممثلي النظام وروسيا وتركيا، أبدى دي ميستورا قدراً ضئيلاً من الأمل بنجاح المؤتمر. بل ذهب الى أبعد من ذلك، إذ أعرب عن مخاوفه من أن تنتهي سورية الى تقسيمها مناطق نفوذ مكرّسة ودائمة للقوى المشاركة في الحرب.

لكن ما إن انتهت الجلسة السادسة لمؤتمر «آستانة» مساء الخامس عشر من أيلول (سبتمبر) الحالي، وأصدرت بيانها بإعلان ضم محافظة إدلب الى «مناطق خفض التوتّر» حتى ظهر الإعلام السوري الرسمي على شاشة التلفزيون ليعلن «انتصار» النظام على أعدائه المحاربين في الداخل وأعوانهم في الخارج.

قبل ذلك بيومين 12 أيلول الحالي، كانت وزارة الدفاع الروسية (وليس السورية) تعلن أن القوات النظامية السورية تمكنت، بدعم الطيران الروسي، من تحقيق نجاحات كبيرة في وسط سورية وشرقها، مع التأكيد على أن 85 في المئة من الأراضي السورية قد تم تحريرها من تنظيمات المعارضة السورية المسلحة. أما المناطق الأخرى المشمولة باتفاق «خفض التصعيد»، أو «خفض التوتر»، فهي القنيطرة، ودرعا، والغوطة الشرقية، وأجزاء من حمص، أما الدول الضامنة للاتفاق فهي: روسيا، وإيران، وتركيا، ولا داعي للإشارة الى أن روسيا وإيران هما الجناحان الحاميان للنظام السوري. وأما تركيا فهي الجارة مشرعة الأبواب أمام ما هبّ ودبّ من منظمات الإرهاب والتدمير والتكفير باتجاه الداخل السوري.

على أي حال تبقى روسيا الوكيل الأساسي الإستراتيجي للنظام السوري، بل هي الكفيل المؤتمن على مصيره ومستقبله في المنطقة، ليس كقاعدة لأساطيلها السابحة في المياه الدافئة، بل لأنها أيضاً الناطقة باسمه في القضايا الإقليمية التي تدور في نطاق الشرق الأوسط، ليس في الشؤون الاقتصادية والتجارية. فحسب، إنما في الشؤون الإستراتيجية أيضاً.

ثم إن إسرائيل ترحّب بالوجود العسكري الروسي والإستراتيجي الدائم في المنطقة، وبينها وبين موسكو معاهدات ومواثيق تعاون، كما بيّن بوتين ونتانياهو على الصعيد الشخصي علاقات ود وثقة متبادلة، وبينهما تسعة لقاءات على مستوى قمة خلال سنتين، كما أن الوجود الروسي في سورية يشكل ضمانة سلام واستقرار لإسرائيل، إذ لا حرب على إسرائيل من دون سلاح روسيا. ثم إن الرئيس بوتين يُعتبر في بعض المواقف حاجزاً منيعاً ضد التوغل الإيراني في دول المنطقة، وهذا ما يعزّز رأي القائل إن من يمسك ورقة سورية يملك ورقة الشرق الأوسط.

ومن سوء حظ الشعب السوري في هذه المرحلة أن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب هو النسخة الأسوأ من الرئيس السابق باراك أوباما. فالمحنة السورية بدأت في السنة الرابعة من ولاية أوباما الأولى، وهو جدّد ولايته أربع سنوات أخرى، وظلّ موقفه من الحرب في سورية وعليها، في المرتبة المتدنية من اهتماماته، في حين ذهبت المبادرة والقرار في الشرق الأوسط الى الكرملين حيث كان الرئيس فلاديمير بوتين غارقاً في أزمات داخلية، بعد تجديد رئاسته، ضمن لعبة «تبادل الكراسي» بينه وبين سلفه ديمتري ميدفيديف.

وعلى طريقة رجل الاستخبارات المغامر خاض بوتين معركة أوكرانيا وخسرها، فبادر إلى ضم جزيرة القرم إلى روسيا، وواجه حصاراً غربياً، ثم راح يلعب دوره السابق، منخرطاً في نزاعات إقليمية وصولاً الى معركة انتخابات الرئاسة الأميركية التي نظّم فيها، من بُعد، شبكة معلومات إلكترونية مفبركة اخترقت حسابات المرشحة هيلاري كلينتون لحساب المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي فاز بالرئاسة، وهو الذي نال نسبة من الأصوات أقل بمئات الألوف من الأصوات التي نالتها هيلاري، وليس مستبعداً أن تفيق الولايات المتحدة الأميركية في يوم ما على إعلان الكونغرس بطلان رئاسة دونالد ترامب.

لكن تلك الإنجازات التي حققها فلاديمير بوتين، على الصعيدين الأوروبي والأميركي، لا توازي بأهميتها، وعبر الدور الذي يقوم به منذ ست سنوات، على الأقل، أهمية ضمانته النظام السوري وقيادته، حتى بدا وكأنه «القيصر» غير المتوّج على سورية!

ليس في تاريخ هذا «القيصر» دور سياسي، أو مسؤولية عامة، قبل وصوله إلى الكرملين، سوى أنه كان ضابطاً مميزاً في جهاز (K.G.B)، أي المخابرات، ولعله تأهل في ذلك السلك ليكون صانع قرار على المستوى الدولي.

ولكن، على هامش هذا الدور المسند إلى الرئيس الروسي، هناك سؤال عربي كبير: إلى متى يمكن أن يبقى النظام السوري بحساب الرئيس بوتين في كفة، والدول العربية في الكفة الأخرى، خصوصاً أن المحاذير التي كانت تحول سابقاً دون انفتاح الدول العربية على موسكو، وخصوصاً الدول الخليجية، قد زالت. وهناك على المدى القريب والبعيد، مشاريع استثمار وتعاون وتبادل صادرات وخبرات اقتصادية، وصناعية، وعسكرية.

لم تعد موسكو «العاصمة الحمراء» في نظر العالم العربي، فمع إطلاق حرية القول والنقد والنشر على كل وسائل الإعلام والمعلومات التقنية في روسيا، ومع تكوين هيئات وأحزاب وكتل معارضة وناقدة، توسعت نوافذ الرأي العام المفتوحة على العالم الخارجي، وعلى الداخل الروسي، في كل المجالات والقطاعات العامة والخاصة. والمعروف عن الروس من قديم الزمان، أنهم ذوو وجوه تستأنس بالتطلع نحو المدى العربي.