أحمد المريني

&

تحتل مدينة القدس الشريف مكانة متميزة لدى المغاربة، نظرا لبعدها الديني القوي المتجذر في نفوسهم؛ فهي مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين. وبدأ هذا الارتباط الروحي بينهما مبكرا منذ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وفي أثناء المشاركة في العمليات الجهادية ضد الصليبيين لتحرير الأراضي المقدسة في عهد القائد نور الدين زنكي. وتذكر الأحداث التاريخية، في هذا الجانب، العديد من الشخصيات المغربية البارزة المشاركة في الحملة العسكرية؛ كابن دوباس المغربي الفندلاوي المعروف بأبي الحجاج المغربي.

وتقوى الارتباط بين المغاربة والقدس الشريف في البعثة العسكرية التي أرسلها السلطان يعقوب المنصور الموحدي سنة 586 للهجرة، بطلب من القائد صلاح الدين الأيوبي، وترأسها الأمير عبد الرحمان بن منقذ الشيرزي، وضمت مائة وثمانين أسطولا بحسب ما جاء في تاريخ ابن خلدون. وهدفت البعثة إلى عرقلة تقدم أساطيل الأوروبيين من سواحل الشام، ومساعدة صلاح الدين بالأساطيل الحربية لمحاصرة مدن عكا وصور وطرابلس الشام بعد فتح بيت المقدس.

هذا الأسطول العسكري القادم من المغرب ضم عددا كبيرا من الجنود والمدربين والمتطوعين والمرشدين والصناع والعمال والفقهاء... ومن بين تلك الشخصيات المغربية التي شاركت القائد صلاح الدين في جهاده للصليبين، وتحدث عنها العماد الأصفهاني الأمير عبد العزيز بن شداد ابن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي.

وتواصل حب المغاربة للقدس من خلال تنظيم الرحلات المغربية المتكررة لزيارة مدينة القدس والأماكن المقدسة للتبرك بها؛ فقد حث العلماء المغاربة على زيارتها والصلاة في مسجدها، حتى أصبحت مزاراً شريفاً ومنزلاً يتبرك به المغاربة كالكعبة الشريفة، أو مقصدا لطلب للعلم...

وتذكر المصادر التاريخية أن المغاربة افتتنوا بحب القدس منذ القديم حتى تحولت إلى مادة خصبة للكتابة؛ ومن أبرز من كتب عنها أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن أبي حفاظ المكناسي، والجغرافي أبو عبد الله الإدريسي المتوفى سنة 562 للهجرة، والمؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون. وقد تطوّرت الكتابة عند العلماء المغاربة عن القدس الشريف، وتحولت إلى أدب يرتبط بفضائها والحث على زيارتها والتبرك بمقدساتها، ومشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين فيها.

ولم يكتف المغاربة بعشق المدينة المقدسة والاكتفاء بما حصلوا عليه من وقف من طرف بعض الأمراء؛ بل قاموا باقتناء عقارات كما يذكر الدكتور عبد الهادي التازي.

وحسب مصادر تاريخية فإن السلطان المريني أبا الحسن علي بن عثمان خصص سنة 738 هجرية مبلغا ماليا كبيرا من الدينار الذهبي لشراء العقارات والأراضي في القدس والحرمين الشريفين. وقد وجد المغاربة بالحائط الغربي غرب المسجد الأقصى، بعدما اقتطع صلاح الدين الأيوبي هذه الأرض لصالحهم. وشمل الحي عددا من الأوقاف حددت في 135 عقارا ومسجدا، ومدرسة الأفضلية ومقبرة وطريقا.

وفي إطار التعريف بهذا الآثار المغربية، نشرت مجلة "دعوة الحق" المغربية في عددها 225 موضوعا عن الأوقاف المغربية في القدس الشريف، مشيرة إلى أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تتوفر على إحصاء بالخزانة العامة لممتلكات أوقاف المغرب بالقدس الشريف. مؤكدة أن أكثر أوقاف المغاربة في القدس الشريف توجد قرب حائط المبكي، وهي بنايات قديمة يرجع البعض منها إلى عهد الدولة المرينية، كما توجد خارج السور قرب مقبرة المسلمين.

هذه الأوقاف الكثيرة ضاعفت ازدياد أعداد المغاربة بالقدس وفي عموم فلسطين، كما أسهمت في اختلاطهم بالأُسر الفلسطينية؛ لكنهم احتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم المغربية الأصيلة، وبزعامة مغربية على جاليتهم، التي كان يتولاها شيوخ يعينون من الوالي، ومن الذين تولوا في الفترات الأخيرة عبد الله المغربي، ومحمد بن يعقوب المغربي، ويمثل هؤلاء الشيوخ المغاربة في المحكمة الشرعية للتداول في القضايا المتعلقة بمصالحهم في الأوقاف وتوزيع التركات وغيرها من الجوانب القانونية...

وقد ظلت هذه الأوقاف المغربية بالقدس الشريف إداريا وماليا إلى حدود سنة 1954، تابعة لدائرة شؤون الأوقاف الفلسطينية. ثم استقلت عنها وتولى أمرها شخصيات لحمايتها وصيانتها، فاتصلت بالمغرب بعد حصوله على الاستقلال، للفت انتباهه إلى الوضع السيء للأوقاف المغربية وما لحقها من الخراب والدمار على يد الكيان المحتل.

وقد اعتمد المغرب قرارا يحدد مسؤوليته عن حماية أوقافه؛ لكن في يونيو 1967 أصدرت سلطات الاحتلال قرارا بهدم حي المغاربة وجرفت معظم بيوت ومحلات حارة المغاربة والحارات الملاصقة لها على رؤوس ساكنيها فدمرت 138 بناية وطردت سكانها البالغ عددهم 635 شخصا. وتواصل ذلك إلى مسجدي البراق ومقام الشيخ عبيد، وجامع الأفضلية وزاويته ومقام الشيخ حسن ومكتب إدارة وقف المغاربة، وضمت عملية الهدم، بيوت مغربية عديدة ومنها بيت الزواوي والجبري والدوكالي والمراكشي والشاوي والفيلالي والسباعي، وشملت منازل أخرى كالطيب والفاسي والدراوي والتواتي والجريدي والسرغيني، وعبد الحق والسويسي والتازي والتجاني والمديوني والحلفاوي والشنقيطي والفكيكي..

وتواصلت العمليات الإجرامية للكيان المحتل ضد أوقاف المغاربة في سنة 2007 بالقدس، بعد هدم أطراف من باب المغاربة. وسعى مشروع التهويد إلى تجريف ما تبقى منها من حجارة وصخور قائمة. تلتها إقدام السلطات الاحتلال على مصادرة العديد من منازل المغاربة، وحولتها إلى بواقع استيطانية.

ونتج عن هذا التدمير الممنهج، طمس وإزالة معالم الأوقاف المغربية من المدينة المقدسة تدريجيا، التي تربط تاريخ المغرب بالقدس. واستبدالها بسكان يهود جدد، ومعالم يهودية مستحدثة، كحائط المبكى وهو طقس ديني لا أصل لها في التراث اللاهوتي اليهودي.

تكتمل الصورة لدى القارئ، لتحكي عن قصة مختصرة لشكل العلاقة بين المغاربة والقدس، التي تغوص في أعماق التاريخ. فقد بات التحسيس بأهميتها والتعريف بها إعلاميا، ضرورة حضارية ملحة لمعرفة امتداد تاريخ المغرب وعلاقته المتشابكة بين الدول المسلمة، كما وجب الكشف عن تفاصيل الجرائم - على الأقل - لفضح الكائن المحتل الذي دمر المعالم الحضارية المغربية بالقدس، في الوقت الذي بقيت معالمه التراثية والتاريخية في كل المدن المغربية سليمة ومصانة، بالرغم من غياب العنصر اليهودي؛ لكن بالرغم من كل الأحداث الأليمة المتلاحقة، لم يفتر بريق افتتان المغاربة بالقدس. ففي سياق التحولات الأخيرة للقضية الفلسطينية عربيا ودوليا، تظل القدس الشريف وفلسطين يقظة في نفوس المغاربة اتجاه اغتصاب بيت المقدس والاعتداء على المعالم الحضارية المغربية وغيرها لهذا المكان الطاهر.