وسام سعادة

تستمرّ أمور التشكيل الحكوميّ معلّقة ومؤجّلة. يتواءم ذلك في اللحظة الحالية مع منسوب سجاليّ منخفض أو بالأحرى محتبس. لا يعرف متى يعود الصخب في هذا المجال. تُستعاد مع "معاناة التشكيل" الراهنة كل تجارب التعطيل والفراغ والشغور السابقة في العشرية الأخيرة، سواء الشغور في كرسي الرئاسة الأولى، أو المواسم الطويلة لتشكيل الحكومات، أو تأجيل الإنتخابات النيابية مدة خمس سنوات. عدم الإلتزام بالإيقاعات السليمة للتداول المؤسساتي بات يرقى إلى ما يشبه السمة العامة للنظام السياسي، وإلى ما يعبّر عن إتساع الفاصل بين النظام الدستوري اللبناني وبين النظام السياسي اللبناني، في الوقت الذي يفترض أن يكونا، تقريباً، شيئاً واحداً. وهكذا صار يجري التطبع مع عدم الإلتزام بالإيقاع السليم والمنهجي للتداول المؤسساتي، وفقاً للنصوص الدستورية وروحية الدستور، وإعطاء الأولوية لـ "درء الخلافات" على إدارتها والعمل على تجاوزها تباعاً، على محك التجربة والعمل. الرأي العام لا يتفاجأ بالمراوحة في التشكيل، فقد رأى هذا المشهد مراراً قبل ذلك، بل أن الرأي العام الذي كان ينقبض في التجارب المماثلة السابقة ويتخوّف من أن يؤدّي التعطيل والتفريغ والشغور إلى الدفع بالأمور نحو الأسوأ، لم يعد يقلق نفسه أمام تكرار هذا المشهد، ويعتبره "طبيعياً" ومألوفاً. إن كان من مدعاة قلق فإنه القلق من تحوّل هذا النوع من الشلل المؤسساتي إلى شيء طبيعي، و"غير مقلق". حتى السجال، الذي ارتفعت حدّته أكثر من مرة الشهر الماضي، على خلفية امتناع التشكيل، هنا وهناك، صار خافتاً، ومتشتتاً، اليوم.

بيد أنّه، في نهاية المطاف، الأمور ستكون محصورة بين خيارين، وينظر إلى فترة ما بعد عيد الأضحى على أنّها فترة الإختيار على هذا الصعيد: فإما تقاطع يفضي إلى إعادة تسهيل مهمة التشكيل، إنطلاقاً من مرتكزات التسوية الرئاسية والحكومية المنجزة قبل عامين، وفي ضوء نتائج الإنتخابات النيابية في نفس الوقت، وإمّا وجوب المسارعة إلى تحديد واضح ومعلّل للأسباب والجهات المعرقلة لعملية التشكيل بالشكل الذي يقتضيه الدستور، وفي الوقت الذي تقتضيه ضرورات الإنتظام المؤسساتي العام.

من "الإستغراق بالمونديال" إلى موسم الإصطياف، ثمّة مجال للنظر إلى الفترة الحالية، فعلياً الفترة التالية للإستحقاق الإنتخابي، على أنّها لـ"تقطيع الوقت". هذا يرتبط، في بعده الداخلي، بالنتائج التي أفضت إليها الإنتخابات، حيث كل طرف يعتبر نفسه انتصر في السباق الفرعي الذي يعنيه من السباق الإنتخابي، وحيث ظهر أن إعتماد مبدأ "النسبية الحكومية" للتشكيل، فضلا على أنه مبدأ غير سليم دستورياً، فإنّه غير عملي، ولا ينتج عنه إسراع في التشكيل، بل مزيد من العرقلة. أما في البعد الإقليميّ، فغياب الوضوح حول طبيعة المرحلة الراهنة في سوريا تحديداً، من بعد استعادة النظام، بمعية الروس والإيرانيين، لمنطقة سيطرة واسعة له، وفي وقت لا تزال تطرح إرهاصات أولية حول ملفات عودة اللاجئين وإعادة إعمار سوريا، وهي إرهاصات لا يمكنها أن تستقل بنفسها عن مسألة التسوية السياسية، إلا بالنسبة للمكابرين. المبادرة الروسية الآخذة في التبلور على صعيد عودة اللاجئين، ومسارعة الرئيس سعد الحريري إلى التفاعل والتنسيق معها، تدخل في هذا الإطار، وتفرض بحد ذاتها إسراعاً في تتميم التشكيل. مع هذا، وبما أن كيفية الربط بين عودة اللاجئين وإعادة الإعمار والتسوية السياسية، لا تزال بمثابة أفكار أولية روسياً، فإنّ غياب الوضوح في المسار الإقليمي ينعكس بدوره سلباً على عملية التشكيل الحكومية. آفاق المرحلة المقبلة بالنسبة إلى سوريا تحتاج وقتاً للتبلور، وهذا الوقت نكابده كلبنانيين على الطريقة المعهودة في العشرية الأخيرة: بالابتعاد عن الإيقاع السليم للإنتظام المؤسساتي، الذي يفترض تشكيلاً حكومياً في وقت أسرع، خصوصاً من بعد إنتخابات نيابية.

الأمور توحي بـ"المراوحة" لبنانياً، وعراقياً، وسورياً، ويمنياً، بنمط مختلف لهذه المراوحة بحسب كل بلد، وكذلك المراوحة على جبهة أميركا – ايران، اذ لم يكن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع طهران مدخلاً لحيوية متسارعة على هذا الصعيد، بل الأمور أقرب الى التباطؤ من بعد الشدة، أقله في الوقت الحالي. هذه المراوحات لا تلغي في نفس الوقت الطابع الحيوي لهذه اللحظة الإقليمية، أقله على صعيدين إثنين: الأزمة التركية – الأميركية الحالية، على خلفية أزمة الليرة التركية، والشعور الإسرائيلي من جهة أخرى بأنه ينبغي اغتنام كل لحظة من عمر ادارة دونالد ترامب بالضد من حقوق الفلسطينيين. مراقبة ما يجري على هذين الصعيدين أساسي للغاية للإنتباه بأنّ المراوحات أيضاً لن تطول، وأنّ الواقع الإقليمي الحالي ليس من النوع الذي يمكن "تقطيع الوقت" بإزاءه.