حنا صالح

إبان حرب فيتنام، هدد روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأميركي آنذاك، بإعادة فيتنام إلى العصر الحجري؛ لكن بعد يومين فقط على ذاك التهديد الذي أُريد منه إنذار نهائي لشمال فيتنام، تمكن ثوار الفييتكونغ من التسلل إلى قاعدة دانانغ، أكبر الحصون الأميركية، ودمروا على الأرض عشرات الطائرات المقاتلة والقاذفة، ما استدعى من البنتاغون إجراء تقييم موقف نجم عنه كثافة شديدة في العمليات الحربية، أُرفقت بفتح طاقة للتفاوض، آلت لاحقاً إلى هنري كيسنجر. وبقية القصة معروفة عن مراحل المفاوضات، وصولاً لاتفاق السلام بين واشنطن وهانوي.


عشية رأس السنة الميلادية، تعرض الحصن الروسي في سوريا، قاعدة حميميم الجوية، لضربة موجعة، وجاءت هذه العملية بعد نحو شهر من إعلان الرئيس بوتين من «حميميم» بالذات، الانتصار الكبير على الإرهاب، لتقلل هذه الضربة لدى البعض كثيراً مما حملته اللغة الروسية عن حجم الانتصار في سوريا، الذي شارك في تحقيقه نحو 48 ألفاً من العسكريين، من أسلحة الجو والبحر والبر. طيلة أيام تجاهلت وزارة الدفاع الروسية الحدث؛ لكن الأسئلة كانت حادة بشأنه، كما المسؤوليات عن ذلك، خصوصاً أن نقاط حماية الحصن الروسي تمتد نحو 15 كيلومتراً بكل الاتجاهات، لتعلن القيادة الروسية في التاسع من الشهر الحالي أن «طائرات من دون طيار هاجمت (حميميم)، انطلقت من جنوب غربي منطقة خفض التصعيد في إدلب»، وأضافت أن هذه المنطقة تقع «تحت سيطرة تشكيلات المعارضة المعتدلة»، وأنه تم التواصل مع الجيش التركي لضمان «الامتثال للهدنة، ومنع هجمات الطائرات المسيّرة».
وفق المصادر الروسية، نفذت العملية 13 طائرة مسيّرة عن بعد، قطعت مسافة تفوق 50 كيلومتراً، قبل أن تنقض على طائرات «السوخوي»، والطريف أن أي جهة لم ترصد العملية وتحبطها، لا الجيش النظامي السوري، ولا قوات الحماية الروسية، والأهم أيضاً أن بطاريات الصواريخ «إس 400» لم تكتشف شيئاً. بعبارة أخرى تلقى الجانب الروسي عملاً، هو كما يقال بالميزان العسكري أشد وقعاً من العملية نفسها، ويفترض أن تكون موسكو أمام تقييم موقف حقيقي، خصوصاً أن هذا النوع من السلاح متوفر في الأسواق ويسهل نقله وتركيبه واستخدامه، وقد أثبت فعالية حيثما تمَّ استخدامه.
لقد كشفت عملية «حميميم»، أياً كانت الجهة المنفذة، أن موسكو - وإن كانت الطرف الأقوى في المعادلة - لا تملك وحدها السيطرة المطلقة، وربما تكون الجهات القلقة من تنامي الدور الروسي والقلقة من الرؤية الروسية للتسوية، قد غضت الطرف عن العملية. هذه الرسالة – المؤشر، على إمكانية إدخال موسكو في حرب استنزاف قد تتكرر من أكثر من جهة، خصوصاً مع بروز التناقض مع مساعي طهران، ورؤيتها كطرف ساعٍ لهيمنة مديدة مباشرة، أو من خلال ميليشيات فيلق القدس المتطرفة على سوريا، والأمر عينه يقال عن أنقرة التي مُنعت من الدخول إلى منبج أو إلى عفرين، هذا فضلاً عن أن هذه الضربة لا تزعج رأس النظام السوري، الذي أثبت مراراً أنه يعاني من انفصامٍ عن الواقع، ولا بد أنه مستاء من طريقة تعامل الروس معه، كما حصل في اللقاء الأخير في «حميميم»، وهو مقتنع أن استمراره في السلطة بيده، وأن هذا الأمر غير خاضع للنقاش.
حتى الآن تسببت العملية بعمى ألوان، فشددت موسكو الضربات العسكرية على الغوطة، أما في أرياف إدلب فقد أدت الغارات الجوية إلى تغيير في معالم المنطقة، ونجم عن هجمات ميليشيات النظام السوري نزوح مئات الألوف من السكان ومن النازحين أصلاً إلى إدلب، وأدى هذا المشهد واقعياً إلى بداية تقويض مناطق «خفض التصعيد» المفترض أن الجانب الروسي هو الضامن الرئيسي لأمنها وأمن قاطنيها، وتطوره سيعني إنهاء بعض أبرز جوانب اتفاقات «آستانة»، فضلاً عن تطويع قوى المعارضة المسلحة والسياسية في هذه المناطق وتشتيتها. طبعاً هذه الصورة لا تشمل مناطق الجنوب السوري التي تخضع لاتفاقات مع الأميركيين والأردنيين، وكذلك مناطق شرق الفرات، حيث تضمن واشنطن سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية».
كل ما تقدم لا يدل على أن موسكو بصدد التغيير أو التبديل في نهجها، فما زال التسابق الروسي بين وزارتي الخارجية والدفاع قائماً لعقد مؤتمر «سوتشي» نهاية الشهر الحالي، وما زالت موسكو متمسكة بـ«حقها» في البت بقائمة الحضور؛ دون الإعلان عن معايير مقنعة للاختيار، ومتمسكة بفرض جدول الأعمال، وفوق ذلك كله ماضية في إبعاد كل من يطرح أولوية البحث بالمرحلة الانتقالية وفق «جنيف 1» والقرار الدولي 2254، وتبدو مصرة على تركيب معارضة على قياس يناسب رؤيتها الجزئية، وبالتالي لم تتوقف أمام مواقف المعارضة السياسية التي تكاد تُجمع على رفض الذهاب إلى «سوتشي».
حتى تضمن مصالحها، وتجني كل الثمار التي تدخلت من أجلها، موسكو مدعوة لأخذ المصالح الحقيقية للسوريين بعين الاعتبار، وهي تدرك أن انتهاء مرحلة العسكرة التي فُرضت على الثورة السورية لا تعني أبداً زوال مطالب السوريين، فإما «جنيف» بالاتفاق مع الإرادة الدولية تلقى قبولاً سورياً على أساس مرحلة انتقالية، وإما فترة الارتخاء ستطوى سريعاً، وتكون سوريا أمام مرحلة جديدة لن يقتصر فيها الاستنزاف على السوريين؛ خصوصاً أنه دون تورط روسي بري واسع النطاق (ما يرتب أثماناً كبيرة)، سيعجز جيش النظام والميليشيات المتطرفة الداعمة له عن ضمان أمن المناطق الواسعة التي جرى استعادتها. إنها لحظة إعادة النظر الجادة في المفاوضات وأهدافها؛ لأن أي «ستاتيكو» لن يكون دائماً، ولن يكون أكثر من فاصل بين زمنين.