الحسين الزاوي

أفرزت التطورات الناجمة عن الأحداث السياسية التي شهدها الوطن العربي منذ مطلع سنة 2011، وضعيات جديدة على مستوى الخليج العربي، بسبب اختلاف المواقف الدولية والإقليمية المتعلقة بمستقبل التحالفات السياسية والاقتصادية في هذه المنطقة. كما أدت أحداث ما سمي بـ «الربيع العربي» إلى بروز صراع غير مسبوق داخل منطقة الخليج وخارجها، بشأن التعامل مع التحولات الكبرى التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط، وانعكس ذلك بشكل واضح على العلاقات بين الدول الخليجية نتيجة لتبني الدوحة لمقاربات جيوسياسية منفردة، تتعارض بشكل كبير مع مقتضيات الأمن القومي الخليجي الذي تتبناه وتدافع عنه الأغلبية الساحقة من دول المنطقة، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة. 


ويمكننا القول إن منطقة الخليج تواجه تحديات تحمل متغيرات مختلفة، بدأت بشكل واضح، وجدي، مع سقوط نظام الشاه في إيران، وتطورت مع اندلاع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وعرفت تحولات مأساوية بعد احتلال صدام حسين للكويت مع بداية التسعينات من القرن الماضي؛ وهناك من يعمل الآن على استثمار الاضطرابات التي شهدها المحيط الإقليمي العربي خلال السنوات السبع الأخيرة، من أجل فرض واقع جيوسياسي جديد من شأنه تهديد التوازنات الداخلية الكبرى التي طالما حرص مجلس التعاون الخليجي على الدفاع عنها في مواجهة أطماع وتهديدات القوى الإقليمية، بزعامة إيران وتركيا، في سياق ظرف دولي بالغ التعقيد تخوض فيه القوى العظمى حروباً بالوكالة على التماس من الجغرافيا السياسية للخليج العربي. 
وعليه، فإنه وباستثناء الحالة السورية التي باتت تشكل جزءاً من الصراع الدولي على النفوذ، وبدرجة أقل الحالة الليبية التي أفرزها تدخل الحلف الأطلسي من أجل إسقاط نظام العقيد القذافي، فقد حرصت دول الخليج على الدفاع عن استقرار ووحدة الدول الوطنية في المحيط الإقليمي العربي؛ ولم تتأخر عواصم خليجية وازنة، مثل أبو ظبي والرياض، عن تقديم دعمها للدول العربية التي واجهت اضطرابات سياسية واجتماعية خطيرة، وفي مقدمها مصر التي تمثل عنصراً أساسيا في معادلة الأمن القومي العربي المشترك. وبقيت الدوحة بموازاة ذلك تغرّد منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، خارج السرب الخليجي وتعمل بشكل حثيث على الدفاع عن أجندة سياسية قائمة على دعم مشروع «الإسلام السياسي» على حساب أمن ووحدة واستقرار الدول العربية، ولعب إعلامها دوراً خطيراً في تراجع مستوى ولاء الأفراد لكياناتهم الوطنية. 


ولعبت الدوحة أيضاً، دوراً كبيراً ولافتاً في زيادة حدة الاستقطاب الديني في المجتمعات العربية بين القوى المدنية ومجموعات الإسلام السياسي، التي حصلت على منابر دعم سخية وغير مسبوقة، مكّنتها من التشويش على السياسات التنموية للدول، وسمحت لها بإثارة الشك والارتياب بشأن المستقبل السياسي لمؤسسات الدولة في الوطن العربي. كما مثلت اللحظة «الداعشية» في دول مثل العراق وسوريا ومصر وليبيا، مناسبة إضافية لقوى الإسلام السياسي من أجل دعم الأجندة الهادفة إلى استبدال المشروعية السياسية للدول العربية بمشروعية جديدة لا تميّز إطلاقاً بين غوغائية المنابر والحناجر، وبين الديمقراطية الرصينة بوصفها تمثل مشروعاً مجتمعياً متكامل العناصر والأركان. 
لا بد لنا من التأكيد بناءً على ما تقدم، أن مجريات الأحداث في اليمن، مثلت فرصة سانحة للكثير من الدول من أجل العبث مرة أخرى بأمن واستقرار الخليج، مستغلة في ذلك الدعم الإيراني للمتمردين في صنعاء؛ كما أسهمت الأزمة الخليجية الأخيرة في إحداث مزيد من الفرز في رؤى ومواقف كل الأطراف، بخاصة بعد أن أقدمت الدوحة على تنفيذ اختراق جديد لمنظومة الأمن الخليجي، من خلال إقامة قاعدة عسكرية تركية على أراضيها. 


ونستطيع القول في السياق نفسه، إن الكثير من القوى الغربية الكبرى باتت أقل حرجاً في المرحلة الراهنة، في القيام باستثمار الخلافات الخليجية بهدف لعب دور مزدوج في علاقاتها مع محور دول الخليج من جهة، ومحور الدوحة وأنقرة وطهران من جهة أخرى، دفاعاً عن مصالحها الهادفة إلى إبرام مزيد من الصفقات العسكرية والتجارية مع دول المنطقة؛ من خلال توظيفها بشكل انتهازي لقرار تجميد العقوبات الدولية ضد إيران، من أجل إعادة التموقع في هذا المحيط الجيواستراتيجي، على حساب المصالح العليا لشعوب ودول الخليج. وبالتالي فإنه لا يمكن للعبة التحالفات الجارية حالياً، إلاّ أن تسيء بشكل كبير للمصالح العليا لدول المنطقة التي ظلت نخبها السياسية تحرص على الدفاع عنها منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي. 
ومن الأهمية بمكان أن نخلص إلى القول في الأخير، إن دقة وحساسية ما يقع من تطورات في الخليج العربي، ناجم عن سعي الكثير من القوى المحلية والأجنبية إلى الانتقال بالصراع من خانة الخلاف ما بين الدول إلى خانة صراعات هوياتية داخلية، في تعارض تام مع التقاليد والقيم المجتمعية لشعوب المنطقة؛ وفضلاً عن ذلك فإنه، وبعد أن ظل الخليج العربي بعيداً عن تداعيات الحروب الباردة بين القوى العظمى، فإن هناك من يريد فتح الخليج على مصراعيه أمام هذا التنافس الدولي المحموم. ومن ثمة فإنه وبعد أن ركزت الدوحة جهودها خلال السنوات الماضية، على الدفاع عن الفصول الحلزونية المتعاقبة في الدول العربية مشرقاً ومغرباً، من «الربيع» إلى «الخريف»، ها هي الآن تستثمر مقولات فصول الفتنة من أجل تقويض دعائم وأسس البيت الخليجي خدمة لأجندات متهافتة، متأسّية ومتوسّلة في كل ذلك بصكوك البراءة والغفران التي تحصل عليها من طرف بعض القادة الغربيين.