علي العبدالله 

تعكس الاستعدادات التركية لمهاجمة منطقة عفرين مواصلة الخيار الخطأ الذي تبناه الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان منذ سنوات، خيار التخلي عن التسوية السلمية للقضية الكردية في تركيا والدخول في جولة قتال جديدة مع الكرد فيها، بتجاهل تام لمعطيات ونتائج الصراع الذي امتد عقودا، والذي انعكس سلباً على الدولة والمجتمع التركيين: ضحايا بالآلاف ودمار واسع لمدن وبلدات وقرى تركية وهدر مليارات الدولارات، ناهيك بتمكين الجيش التركي من السيطرة على الحياة العسكرية والمدنية واستنزاف جزء كبير من موازنة الدولة، رواتب وحوافز وامتيازات، طوال فترة المواجهة المسلحة، وفشل القوات التركية في القضاء على التحرك الكردي وإجهاض التطلعات السياسية الكردية المشروعة.

وضع الانحياز لسياسة القوة في حل ملفات سياسية اردوغان في مواجهة القضية الكردية في دول الجوار ودفعه إلى الانخراط في الصراع حول القضية الكردية، في سورية والعراق بشكل خاص، على خلفية السعي إلى خنق التحركات الكردية فيهما، كي لا يشكل التوصل إلى حل لأي منهما سابقة تضطره للإقرار بحقوق الكرد في تركيا، ما جعله يقف ضد نتائج الاستفتاء في إقليم كردستان العراق وضد توجهات حزب الاتحاد الديموقراطي ومشروعه الفيدرالي في سورية.

مشكلة أردوغان وخياره السياسي أن الدولة التركية أضعف من أن تقرر وتنفذ في صراع تشارك فيه قوى عظمى وكبرى استثمرت فيه، من جهة، ولها، من جهة ثانية، فيه مصالح مباشرة أو غير مباشرة تسعى لتحقيقها وحمايتها، وإنه بحاجة إلى الحصول على موافقة هذه الدول على موقفه وقراره، وأنها، لاعتبارات تتعلق بالمصالح القريبة والبعيدة، لن تمنحه موافقتها ما لم يتناغم موقفه مع هذه المصالح ويخدمها أو ما لم يدفع ثمناً لذلك في ملف آخر، في سياق ما يسميه المخططون الإستراتيجيون «الربط بين القضايا».

وما يزيد موقف أردوغان دقة وحراجة أن بعض طلبات هذه القوى تتعلق بملفات تركية داخلية، سياسية وحقوقية وأمنية، بما في ذلك القضية الكردية ذاتها، والتجاوب مع طلباتها يتناقض بشكل صارخ مع الصورة التي يسعى لترويجها عن نفسه، وهو على أبواب انتخابات رئاسية مصيرية بالنسبة له، كحريص على الحقوق التركية وساع لتحرير القرار التركي من الهيمنة الأميركية.

نجح أردوغان في تحاشي سيطرة «قوات حماية الشعب» الكردية على كل الشريط الحدودي السوري التركي المشترك عبر الدفع من حساب السوريين، دماً ودماراً بتخليه عن المعارضة في ذروة معركة حلب، ثمناً لموافقة موسكو على عملية «درع الفرات»، التي اكتوى بنارها ودفع ضريبة الدم فيها مقاتلون سوريون من فصائل «الجيش السوري الحر»، التي حررت مثلث جرابلس اعزاز الباب من تنظيم «داعش» وقطعت الطريق على «وحدات حماية الشعب» الكردية التي سعت إلى الوصل بين كانتونيها في عين العرب/ كوباني وعفرين عبر احتلال الشريط من جرابلس إلى عفرين. وهذا شجعه، كما يبدو، على تكرار العملية ودفع ثمن مواجهة «خطر» كانتون عفرين من الدم السوري، وعلى حساب تطلعات الثورة السورية في الحرية والكرامة، بدفع الفصائل الخاضعة لرعايته وتوجيهه إلى المشاركة في ما يسمى «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي خدمة لموسكو، ودفع فصائل «درع الفرات» إلى أتون محرقة المواجهة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين وجوارها.

هنا لا بد من الإشارة إلى نقطة جوهرية سهلت على اردوغان إقناع فصائل من «الجيش السوري الحر» لخوض حربه بالوكالة ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي سياسة القوة التي اتبعتها «الوحدات» الكردية في تعاملها مع المواطنين العرب والتركمان في مناطق سيطرتها، حتى الكرد المختلفين معها سياسياً لم يسلموا من بطشها، واحتلالها مدن وبلدات وقرى عربية وممارسة القمع والتمييز ضد سكانها إن بطردهم من هذه المدن والبلدات والقرى وتدمير بعضها لمنعهم من العودة إليها أو بفرض التجنيد الإلزامي على شبابها وتحصيل ضرائب ورسوم مرور على السلع والأعمال التجارية فيها.

تستدعي الحصافة من فصائل «الجيش السوري الحر» التدقيق في المعادلة وموازنة الربح والخسارة التي تنطوي عليها المعركة والثمن الذي سيدفع في القتال أو في مساومات اردوغان مع موسكو وإيران على حساب تطلعات الثورة والمعارضة، كما تستدعي من «وحدات حماية الشعب» الكردية إسقاط بعض حجج اردوغان بالانسحاب من البلدات والمدن والقرى العربية في محيط عفرين وتسليمها لفصائل من «الجيش السوري الحر» أو لمجالس محلية منتخبة.

في الختام كان باستطاعة اردوغان تقليص حجم «الأخطار» التي يراها في التحركات والبرامج الكردية في دول الجوار لو أنه واصل عملية التسوية التي أتاحها عبدالله اوجلان، الذي تخلى عن مشروع الانفصال وقبل بحل حقوقي داخل الدولة التركية، وأنجز اتفاقاً ينهي هذا الصراع المرير ويلعب دوراً إيجابياً في حل القضية الكردية في دول الجوار عبر تحقيق سابقة متوازنة ومقنعة لكل الأطراف.