طيب تيزيني 

تتسع أركان الاستبداد السياسي في بعض البلدان العربية التي لجأت إلى الآخر لحماية نُظُمها من ثورات شعوبها الحالية. فكأن شعارات الحرية والاستقلال والنهوض تتلاشى لصالح الحُماة الجدد الأغراب! فإذا كان القرن العشرين قد كرّس حركات النهوض بعد الاستقلال وتحرر الأوطان وظهور المجتمع المدني وما يتصل بالحداثة والتحديث في سباق الأصالة والمعاصرة.. فإن القرن الحالي بدأ يُنتج ظواهر خطيرة على الضد من كل الديناميات المذكورة أعلاه. وقد انبعثت هذه الظواهر المستجدة من فشل مشاريع الحداثة والديموقراطية والمدنية، على ضآلة إمكاناتها عبر ضبطها بقيود الاستئثار والاستبداد والتخليف، بحيث تفننت معظم المجتمعات العربية على أيدي «دولة الاستقلال» وعبر عودة الحركات الظلامية الدينية المناهضة للتنوير من خلال تسييد الطائفية. قد استشرت هذه الأخيرة بوتائر خطيرة، ومن خلال أصحاب «الأيديولوجيا الماضوية» بممثليها الطائفيين في الحقل الديني.

لقد نشأ «حزب الله» في لبنان ليفكك أبنية الدول العربية المدنية عبر طائفية شيعية جرى تقديمها كدفاع عن «المظلومين الفقراء في التاريخ الشيعي الإسلامي»، لكن يداً بيد مع طائفية نسبية. فهذه يراد رد الاعتبار إليها بعد انهيارات أصابتها على أيدي القوى الأوروبية الأجنبية. لقد تم التعويض عن معاهدة «سايكس بيكو» ب«الظلامية السوداء» التي راح بثها يتقدم إلى أمام باسم مجموعة من الذين «ظُلموا» في التاريخ الإسلامي!

وإذا فككنا التاريخ الشيعي بمنظور منهجي علمي، فسنضع يدنا على أحداث عناها المؤرخون الطائفيون والشوفينيون دون ذكرها. إن الانكسار الحاسم الذي تجلى في معركة القادسية بين العرب والفرس لم يمح في أذهان التاريخ الفارسي أولاً، وفي التاريخ الشيعي الديني ثانياً، ما يدعونا إلى استخدام المنهج التاريخي اللائق في هذا المقام، ونعني منهج الحفر في بنية التاريخ.

إن ما يلفت النظر في المرحلة الراهنة في الشرق الأوسط، هو ذلك الإلحاح على «الطوائف» في التاريخ العام للمنطقة. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نتحدث عن «عصر الطوائف» في تاريخ ذلك الشرق الأوسط. وسوف تتضح أمامنا لوحة واسعة تضم عدداً من البلدان التي تشكل محوراً جديداً في التاريخ العالمي المعاصر. فليس غريباً أن نتبين ذلك الخط القديم الجديد، كي تُتاح لنا إمكانات التفكيك. لقد اتسعت الساحة وتعاظمت المعالم المدعوة إلى أن تكون محوراً دولياً وأيضاً قديماً جديداً: إن عصراً للطوائف يعلن عن نشوئه، ويحتاج لمن يبشر بإرهاصاته المتعاظمة عمقاً وسطحاً!

وعلينا أن نذكر بأن الخيوط الطائفية تتعاظم كرد على أطراف متعددة: أول هذه الأطراف يتمثل في الطرف الأعظم المتمثل في «الإسلام» الذي ظهر في القرن السابع، وامتد عمقاً وسطحاً في حياة الناس، ثم اتسع في قراءات واجتهادات له وفق البنى الإنسانية المتعددة عمقاً وسطحاً، وطوائف متعددة وديناً واحداً مرحباً بالعوالم المختلفة والموحدة. وقد ظهر ذلك أيضاً في التجلي بطوائف متعددة، لكن الموحد لها في وحدة دينية أيديولوجية قابلة للتخصيص والتعميم.

أما ما فعله آخرون، فقد تمثل في رفض الواحد الموحد لصالح الكثير بمجموعات من الصراع والقتل، هكذا أوجد بعضهم «الدين الشيعي» من «الدين الواحد» لنواجه مشاريع طائفية، منها ما يوجد في إيران واليمن ولبنان وسوريا.

إن مواجهة ذلك تقتضي وجود ترسانة مجتمعية شاملة، قد تتمثل مفرداتها المجتمعية بالمرجعيات التالية: المجتمع المدني، الديمقراطية السياسية، العدالة الاجتماعية، الحرية الخلاقة، التعددية الثقافية والأيديولوجية، والمساواة الدينية والطائفية، بحيث يصبح الجميع حيال المرجعية العليا: المؤسسات الديمقراطية بكل أشكالها وتعدديتها.