سالم سالمين النعيمي

 التحول دون ثورة كان استجابة اليابان للضغوط الداخلية والخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، لبناء دولة عصرية تمتد جذورها إلى القيم اليابانية الضاربة في عمق التاريخ، لتكون الدولة الأولى في العالم التي بنت نموذج صعودها كدولة كبرى بثوب الأصالة ولغتها الأم، بعد تفكيك الآليات الغربية وأقلمتها محلياً بما يتناسب مع خصائص مجتمعها. ويتضح الاختلاف الثقافي والقيمي مثلاً في أسلوب الإدارة في الشركات والمصانع اليابانية التي تعتمد على اتخاذ القرارات بشكل جماعي في مستويات عدة وإشراك الموظفين الصغار في العملية الإدارية، وعلى ضبط نوعية الإنتاج أسفل الهرم لا من أعلاه. وهذا مخالف للنموذج الأميركي الذي يعتقد البعض أن اليابانيين قاموا بتقليده، بل العكس هو الصحيح، إذ حاولت الشركات الأميركية تقليده، لكنها لم تفلح في استنساخه لغرابته وخصوصيته الثقافية. واليابان نهضت على أسس ثقافية تكاد تكون مخالفة للمسلمات الثقافية الغربية، إذ لم تقم على تهديم البنى التقليدية أو عبر التخلي عن القيم الثقافية الخاصة بها.

والإصلاح في اليابان بني على ثلاثة محاور أساسية: بناء جيش عصري، إحداث تغيير جذري في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والحفاظ على الهوية اليابانية تحت الشعار المشهور «التكنيك غربي، والروح يابانية»، أي أن الثورة كانت في الفكر والنهضة الثقافية هي التي أسست للتغيير الموضوعي.

ومن السمات المميزة للتنمية في اليابان من خلال التصنيع: النمو القائم على الاستثمار، واستثمار القطاعين الخاص والعام في البنية التحتية. وعملت الحكومات الوطنية والمحلية كعناصر تنسيقية في مجال بناء الهياكل الأساسية، وترك الاستثمار في القدرة على التصنيع إلى حد كبير للقطاع الخاص، وجعل النمو الياباني بقيادة الاستثمار وليس التصدير.

كما ساهمت الاقتصادات المقيسة في تخفيض التكاليف وزيادة مستويات الإنتاج، والتركيز على الجودة والابتكار، وكان كل جزء جغرافي ياباني متخصص في اقتصادات بعينها ونمو الاقتصاد الوطني، عن طريق استيراد التكنولوجيا الأجنبية وتكييفها، والاستثمار في التعليم بصورة غير مسبوقة. أما على مستوى الشركات، فقد تم خلق أسواق عمل داخلية تربط بين الشركات والعمال، مما يعطي العمال حافزاً قوياً للتكيف بمرونة مع التكنولوجيا الجديدة، وتحسين القدرة الاجتماعية، وكان العاملون اليابانيون الأكثر إنتاجية في العالم. وتتمتع شركات اليابان بعلاقات صناعية ممتازة مع النقابات، وعملت بنوكها بشكل متناغم مع الشركات للسماح بالاستثمار طويل الأجل.

لكن كل ذلك لم يشفع لليابان، بعد ازدهارها اقتصادياً لعقود من الزمن، انكمش اقتصادها بعد رفض الشركات الاقتراض للاستثمار، بدلاً من التركيز على سداد الديون المتراكمة في سنوات الازدهار. وقد أنفقت الحكومات اليابانية المتعاقبة أموالاً ضخمة في محاولة لتحفيز الاقتصاد، مع شيخوخة السكان وانخفاض معدل المواليد.. لكن دون جدوى.

فالحاجة لإصلاحات هيكلية لجعل الاقتصاد أكثر قدرة على المنافسة، كالتخفيضات الضريبية المستهدفة، وارتفاع الإنفاق الحكومي على رعاية الأطفال.. كل ذلك لم يغير الأخبار السيئة التي تقول إن اليابان تعاني مشاكل على ما يبدو لا يمكن حلها. لكن الخبر السار هو كلمة «على ما يبدو» بعد أن تعثرت اليابان في التسعينيات، ولم تستعد بعد رونقها رغم أن اقتصادها مدعوم من التكنولوجيا الروبوتية والطبية التي لا يعلى عليها في العالم، ولا تستغربوا ولادة جديدة لليابان، فكل ما تطلبه الحياة في المستقبل ستكون اليابان رائدة فيه بجانب قوة قاعدة البحث العلمي والعقلية اليابانية، وقدرة اليابان على النهوض من تحت رماد القنابل النووية بصورة أذهلت العالم في فترة زمنية تكاد لا تذكر سيكون محفز النهوض الجديد لليابان مع إيمان المجتمع الياباني بأنه حالة خاصة لا تهزمه الظروف التي تهزم الآخرين، رغم استمرار العجز المالي الهائل والذي تموله اليابان من خلال إصدار مستويات مماثلة من السندات الحكومية، وهو ما سيصل بحجم الدين المحلي إلى 2.4 كوادريليون، أي أعلى مستويات معدلات الفوائد المستقبلية، وذلك بافتراض أن مستويات معدلات الفوائد على السندات ستظل كما هي ليستهلك الدين المحلي 50% من موازنة البلاد في 2032، وسيرتفع الدين المحلي ليمثل 540% من حجم الناتج المحلي، لذلك لن تجد اليابان أمام هذا التحدي حلاً سوى عملة رقمية جديدة واقتصاد ثوري غير تقليدي سيعيد اليابان إلى الواجهة أو تخضع للواقع الصيني.